ثقافة و فن

''كيما اليوم'' للمخرجة ليلى طوبال : صرخة مسرحية في وجه الإنسانية الضائعة

 في عالم يعج بالفوضى والحروب والانقسامات، تأتي مسرحية  "كيما اليوم" كمحاولة جريئة لتذكيرنا بجوهر الإنسان المفقود. عبر عرض أول احتضنته قاعة الفن الرابع يوم السبت 18 جانفي، استطاعت الفنانة ليلى طوبال أن تقتلع جمهورها من دوامة الحيرة الفردية إلى صدمة الحيرة الإنسانية الكبرى، لتعيد السؤال الملحّ: كيف نُحيي إنسانيتنا قبل أن تطغى عليها قيم مشوهة وأطماع قاتلة؟

مسرحية "كيما اليوم"، وهي ثمرة إنتاج مشترك بين المسرح الوطني التونسي وشركة "الفن مقاومة"، حملت توقيع الفنانة ليلى طوبال في الكتابة والإخراج والسينوغرافيا، ولجت من خلاله إلى أعماق النفس البشرية، مستعرضة تناقضاتها وأوجاعها في عالم يعج بالأسئلة الوجودية والقضايا الإنسانية.
ويضم فريق التمثيل كلّا من مايا سعيدان وأصالة نجار ودينا وسلاتي وفاتن شرودي وخديجة محجوب وأسامة شيخاوي. كما يشارك في العمل عدد من المختصين في الجوانب التقنية هم فاتن جوادي المكلفة بالإنتاج وأمان نصيري مساعدة مخرجة وعمار لطيفي في تصميم الكوريغرافيا. أما تصميم الإضاءة فيشرف عليه صبري العتروس والهندسة الصوتية لمحمد هادي بلخير، مع مساهمة محمد بدر بن علي في تقنيات المابينغ، وتصميم الملابس لـمروى منصوري والتصميم الغرافيكي لـسيف الله قاسم والتنسيق الإعلامي لهند تقية. . أما الموسيقى التي ألّفها مهدي الطرابلسي وأدت بعض مقاطعها عبير دربال بإحساس مرهف، فقد أضافت للعرض بُعدا مشحونا بالعاطفة، وكانت الموسيقى خلفية حية أيضا عبرت عن لحظات التوتر والفرح واليأس.
تبدأ المسرحية بقصة "دنيا"، الطفلة التي كانت تحتفل بعيد ميلادها الخامس عندما سمعت نداء غريبا قادما من جوف الأرض، صوت شاعريّ مرهف وساحر يطلب منها العودة إلى أعماق الطبيعة تاركة عالم البشر وصراعاته. ومع استعدادها للرحيل، يلتف حولها أشخاص لإلقاء نظرة الوداع، لكن دنيا تختفي فجأة تاركة هؤلاء الأفراد عالقين في متاهة خانقة لا يعرفون لها مخرجا.
منذ اللحظة الأولى، أخذنا العمل إلى سرد خرافي يلامس الواقع بحدّة. في عالم يعاني من كوارث متلاحقة وحروب لا تنتهي، جاء قرار الشخصيات بتسليم عيّنات من بويضات وحيوانات منوية لإنقاذ البشرية. لكن المأساة تتجلى بانقلاب الشاحنة الحاملة لهذه العينات قبل الوصول إلى المخبأ الأخير. في لحظة مشحونة بالتصعيد الدرامي، تُخلّص آخر بويضة وآخر حيوان منوي، ليولد منهما جنين بشري يُدعى "دنيا ".
دنيا، الشخصية المحورية، لم تكن مجرد طفل جديد يُولد وسط الدمار بل كانت رمزا لمعنى الحياة والإنسانية المفقودة. فمنذ البداية، ارتقت القصة من مشهدية جنسية بحتة إلى وصف علمي ساحر مغلف بالخرافة مسلّطة الضوء على التناقض بين الأمل والبؤس الإنساني.
الحياة متاهة وبحث عن المعنى
 
لم يكن غياب دنيا مجرد حدث عابروإنما كان وقودا لتحريك الشخصيات في رحلة بحث مضنية عن معاني الوجود، إذ عاشت الشخصيات على الركح صراعا مع الغياب، ووجدت نفسها عالقة بين الحنين إلى دنيا المنشودة والواقع البائس المليء بالعنف والمعاناة. وتحولت خشبة المسرح إلى متاهة تعكس حالة التيه والضياع، فكان الإيقاع سريعا وديناميكيا، يهدأ أحيانا ليفسح المجال للشخصيات كي تبوح بآلامها الداخلية. ومن العنف الأسري إلى الإقصاء الاجتماعي ومن وهْم الإنسانية في عصر العولمة إلى فقدان الهوية، جاءت الحوارات كصرخة إنسانية تتجاوز الزمان والمكان.
وعلى الرغم من بساطة الديكور حيث اختارت المخرج الفضاء الركحي الفارغ للعب الممثلين على الخشبة، استطاعت السينوغرافيا أن تنقل معاني عميقة، فالجدار الخلفي المليء بالثقوب الدائرية كان رمزا لذاكرة البشرية المثقوبة التي تسعى لاستعادة نورها. أما الحركة الدؤوبة للممثلين على الركح فقد عكست حالة البحث واليأس، بينما كانت الإضاءة تُبرز التناقض بين محاولات البوح الفردية وقوة الشد الجماعي إلى الخلف. وقد كانت "دنيا" طيلة ردهات العرض شخصية غائبة، لكنها كانت صوتا ينبع من أعماق الأرض تذكيرا بأن البشرية رغم كل مظاهر التقدم لا تزال تائهة في ظلمتها.
فرصة أخيرة للإنسانية
 
ومع تصاعد الأحداث، جاءت العودة الرمزية لدنيا كفرصة أخيرة للإنسانية. وقد كان ظهورها من بين سرب الفراشات المتراقصة لحظة ولادة جديدة للأمل، إذ لم تكن عودتها تعني الخلود البشري، وإنما كانت دعوة لتجديد القيم الإنسانية حيث يصبح السؤال الأهم: كيف نحيي إنسانيتنا؟
وتحمل مسرحية "كيما اليوم" دعوة صريحة للتأمل في واقعنا الإنساني. واستطاعت ليلى طوبال من خلال الكتابة والإخراج والسينوغرافيا أن تسلط الضوء على قضايا جوهرية تمس الإنسانية جمعاء. ومع فريق التمثيل والتقنيين المبدعين، تحول العرض إلى تجربة مسرحية ملحمية تحمل في طياتها الأمل والخوف معا، ومرآة تعكس ما وصلنا إليه كبشر. وتطرح تساؤلا وجوديا: هل نستحق فرصة أخرى للعيش؟ الإجابة تتوقف علينا...