المجتمع

في الطريق إلى أوروبا عبر صربيا : حين فقدت مروى عقلها

 اخلعي ملابسك قالت لها الشرطية في فرانكفورت. رمقتها مروى بنظرة حائرة، لكنها واصلت: جميع ملابسك، ملابسك الداخلية أيضا. 

في ذلك المساء لم تنم مروى طوال الليل، ظلت تحدق في السقف، سمعت فجأة صوتا حادا يخاطبها: مؤخرتك عارية، استري جسمك. كان صوتا حقيقيا . أخبرها الطبيب الفرنسي أشهر قليلة بعد الحادثة بأنها مصابة باضطراب ثنائي القطب. 
تعتقد مروى أن روحها تأذت فهي لم تكن مصابة بأي مرض قبل أن تتعرى تماما أمام أعين الشرطيات الثلاث في فرانكفورت. 
تؤكد الأبحاث العلمية أن الوراثة ليست سوى واحدة من العوامل المساهمة في تطور اضطراب ثنائي القطب. فللعوامل البيئية والعصبية الحيوية الأخرى دور أيضا. 
الأحداث المجهدة مثل مشاكل العلاقات الأسرية والعاطفية أو الصعوبات المالية أو التغيرات الكبيرة في الحياة أو صدمات الأحداث المؤلمة يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في الإصابة بهذا المرض العقلي. 
لم يبد الطبيب النفسي، رغم اللطف البادي على محياه، مهتما بأسباب ظهور أعراض المرض في هذه الفترة التي أطلق عليها مرحلة التشخيص وبداية العلاج. كان يدرس باهتمام واضح جرعة الدواء الضرورية التي تعيد لمروى حياتها الهادئة وابتسامتها. 
الهجرة هربًا من الفقر إلى رحلة من الألم
أنا بخير رددت المريضة إن الآلام تزول بزوال أسبابها. الفقر المدقع الذي عانت منه المريضة مع عائلتها في قرية صغيرة في إحدى مدن الجنوب التونسي الصحراوية دفعها إلى القيام بهذه الرحلة التي انتهت بها عارية في غرفة تفتيش مظلمة، وهي التي حرصت طيلة سنواتها الخمسة والثلاثين على إخفاء جسمها عن أعين المتطفلين. 
ظنت المريضة أنها ستشفى بسرعة بعثورها على عمل كبائعة في متجر للبضائع الشرقية براتب مجز بعد أن حصلت على بطاقة إقامة مزيفة وأيضا بمحاولتها نسيان حادثة فرنكفورت. الهم يزول بزوال أسبابه أخبرتها جدتها ذات يوم.  
بدون سابق تخطيط شرعت المريضة في تطبيق نظرية الممثلة الأمريكية كاري فيشر المصابة بنفس الداء.  قالت فيشر يوما "إن اضطراب ثنائي القطب يمكن أن يكون معلما. إنه تحد يسمح لك بفعل ما تريد". 
نظرية متفائلة. انهماك المريضة في العمل، الجولات في شوارع باريس، الضحك والمرح بصوت مجلجل. علامات السعادة البادية على محياها. إنها أعراض المرض وليست علامات شفاء.
التفاؤل المفرط الذي أظهرته المريضة أياما قليلا بعد التشخيص لم يكن سوى أول حلقة مما وصفه طبيبها بالهوس المفرط. يطلق العلماء على هذه الأعراض المرحلة العالية. كانت شديدة اليقظة كثيرة الكلام. ثم ذات مساء فاجأها الاكتئاب الأسود وهي المرحلة الثانية من المرض. في هذه المرحلة القاتمة يتجمد المريض. يظن أنه لن ينهض مرة أخرى. أخبرها مدرب التنمية البشرية الذي تتابعه على مواقع التواصل الاجتماعي أن التفاؤل من شانه أن يجهض المرض. حالة الإنكار قادتها في النهاية إلى خلع ملابسها والهرب ثم النوم في محطة القطار. تبولت على ثيابها أمام المارة ولكنها لم تشعر بالعار هذه المرة. تبلد المشاعر هو من أعراض اضطراب ثنائي القطب. 
رحلة التهريب: جوع وتعب وإهانات


هاجر كل أشقاء مروى إلى فرنسا منذ سنوات في قوارب الرحلات غير النظامية التي قادتهم إلى من شواطئ تونس على شواطئ إيطاليا. وفر لها أشقاؤها الأموال الضرورية لتهاجر هي أيضا ولكن هذه المرة عبر تركيا. قامت فرق التسفير التي أخذت الأموال مسبقا بنقلها رفقة عشرة أفراد في حافلات من إسطنبول إلى بلغاريا وصربيا ثم إلى المجر. هناك أجبرت على القفز فوق سور شاهق العلو وتمزقت ملابسها. شتمها منسق الرحلة "اقفزي أيتها البدينة". تركهم هناك وعاد أدراجه. ظلت الطريق هي ومرافقيها ليصلوا بعد أيام من التنقل بين محطات القطارات إلى فرانكفورت. أدركت مروى وقد اتسخت ثيابها وفقدت عشر كيلوغرامات من وزنها بسبب الجوع، أن العالم قاس وبارد. ربما أكثر قسوة من والدها الذي رفض توديعها في المطار. عندما همت باحتضانه أشار لها بيده قائلا " اذهبي.. اذهبي.." 
قالت المريضة ان روحها تأذت مرتين خلال هذه الرحلة. لكن هل يسبب أذى الروح اضطرابا عقليا؟ 
تقول القصص إن الشاعر العربي عنترة ابن شداد جن حين رفضت القبيلة قبل مئات السنين أن تزوجه من حبيبته تحدث إلى جدران منزلها وخاطب حصانها وقال في إحدى قصائده " اغتالني سقمي الذي في باطني". 
عراقيل العلاج في الغربة
اشتد الخناق على نفس مروى فاعتل عقلها. يقول الطبيب المعالج أنه يمكن للأشخاص المصابين بهذا الاضطراب أن يتمتعوا بحياة طبيعية إذا حصلوا على الدعم النفسي وتجنبوا العوامل المسببة للانتكاس. لكن قلب المريضة يشبه بركة لا قاع لها من المياه الراكدة. دون أي حيوية أو بوادر بهجة. وقت السعادة قصير جدا لا يتجاوز ثانيتين. الجسد والعقل ملتصقان، عندما تشعر الروح باليأس يشعر الجسد بالشلل.
زوال الأسباب لن يزيل المرض، قالت المريضة. لأن الأسباب حفرت في الذاكرة. لا يمكن أن نزيل جروح النفس كما نزيل الوشم. يدخل المريض في حلقة مفرغة. هو مريض لأسباب يعلمها ولكنه لا يستطيع إزالة الأسباب لأن اضطراب ثنائي القطب يحفز الذاكرة ويحفر في التفاصيل. 
لنعد إلى الحلقة المفرغة: سألت الطبيب المعالج. هو يعتقد بأن جلسات العلاج النفسي ضرورية مع الانتظام في أخذ الأدوية. فهي تمكن المصاب بالمرض من الدردشة والتعبير عن آلامه وتخلق بالتالي أرضية صلبة تضاعف من نجاعة الأدوية. 
هراء قالت مروي. الأحداث الحزينة والمعاملة الجارحة أصبحت روتينها اليومي كمقيمة غير نظامية في فرنسا. ينهرها صاحب المتجر بقسوة وتحرمها زوجة شقيها من الأكل وتمنعها من استخدام جهاز التدفئة. حالات الهلع التي تنتابها كلما رأت شرطيا خشية أن يتم القبض عليها ثم ترحيلها من جديد إلى تونس تعيدها كل يوم إلى نقطة الصفر. 
بين المرض والوضع القانوني: حلقة مفرغة من المعاناة
أن يصاب الإنسان بمرض عقلي لا يمنعه من الرغبة في الشفاء. لكن كيف له أن يواجه حياة عبثية لا تتوفر فيه الحقوق الأساسية لكل مواطن طبيعي. كيف للمريض أن يواجه النكسات والإخفاقات المتكررة. كيف له أن يخرج من الفوضى اليومية؟
التزمت المريضة بأخذ الأدوية في مواعيد مضبوطة. لكنها عرفت أنها لم تعد نفسها بعد الآن. 
وضع مروى غير القانوني لا يمكن أن يخلق أرضية صلبة تساعد على علاجها، وضعها يخلق فقط أرضية هشة في باطنها آلاف الثغرات التي يتسرب منها المرض ويكبر وتخرج أعراضه إلى العلن.
وقعت مروى مغشيا عليها حين أخبرتها المختصة الاجتماعية أن مرضها ليس بالخطير ولن تساعدها بالتالي على الحصول على بطاقة الإقامة استثنائية التي تمنحها الدولة الفرنسية فرنسا عادة لمن يحتاجها من المرضى. 
تتوه المريضة كل لحظة بين تعدد أسباب المرض وقسوة أعراضه واستحالة الشفاء منه. رحلة أوروبا تحولت إلى رحلة علاج طويلة ومنهكة. لقد فقدت عقلي تقول المريضة بغضب وخيبة.
 
 
خولة العشي