كتب- منذر بالضيافي
شرع رئيس الحكومة مهدى جمعة، بداية من أمس في أداء زيارة رسمية الى فرنسا، بدعوة من الوزير الاول الفرنسي مانوال فالس، مثلما جاء في بيان وزارة الخارجية. وان حرص بيان الخارجية، على تقديم دواعي وأسباب الزيارة، وفق "لغة" دبلوماسي أقل ما يقال فيها، أنها "خشبية" و "مستهلكة"، وتحيلنا على المعجم السياسي القديم، الذي كنا نأمل في القطيعة معه. حيث جاء في البيان أن هذه الزيارة تندرج "في اطار تعزيز علاقات التعاون مع فرنسا باعتبارها الشريك الاول لتونس".
زيارة جاءت متأخرة جدا بالنظر الى الروابط "المعقدة" التي تربط بلادنا بفرنسا، وهي تعود الى "تركة" الارث الاستعماري، ما جعلها تخضع دائما للمقولة الخلدونيةالشهيرة: "المغلوب مولع دائما بالاقتداء بالغالب". وبالعودة الى زيارة جمعة للاليزي، نقول متأخرة بل كثيرا متأخرة بالنظر الى "مكانة" و "تاريخية" العلاقة بين البلدين. فهي تأتي بعد ثلاثة أشهر من وصول جمعة الى قصر القصبة. كما سبقتها – وطيلة السنوات الثلاثة التي تلت الثورة – وجود برود في العلاقة بين تونس وباريس.
ان دواعي هذه البرودة، تعود الى كون ما حدث في 14 جانفي فاجأ باريس، وأربك حساباتها لا في تونس فقط بل في المنطقة ككل. وفي هذا الاطار نذكر بالمواقف الفرنسية ابان تفجر الثورة والتي كانت "صادمة" لعموم التونسيين أثناء الفترة الأولى من الحراك الثورى، بسبب دعم حكومة سركوزي للنظام السابق بحكم العلاقات المتينة بينهما، دعم وصل إلى حد إعلان أليو ماري وزيرة الخارجية الفرنسة أنذاك، عن إستعداد فرنسا لمد بن على بكل الأساليب المتاحة لقمع الثوار، وهو موقف ما زال راسخا وخيم بضله على العلاقات بين البلديين في المستويين الشعبي والرسمي. ويستبعد أن تسام زيارة جمعة في اذابة الجليد، وبالتالي عودة العلاقات الى ما كانت عليه، خصوصا أمام تراجع الدور الفرنسي في العالم، وبروز لاعبين جدد ينافسونها على ما كان يحسب بأنه "مجالها الاستراتيجي والحيوي"، لكن هذا لا يعني انعدام تواصل الحضور الفرنسي، خاصة الثقافي.
و لعل هذا ما يفسر جانب مهم في تأخر زيارة جمعة لباريس، وهو بمثابة الحاجز النفسي وان كانت السياسة الدولية تخضع للمصالح أولا، نعم تأتى هذه الزيارة بعد سفرات مكوكية شملت كل من الأجوار - من الجزائر والمغرب - ، ثم جولة شملت دول مجلس التعاون الخليجي، تلتها زيارة دولة الى أمريكا حظي خلالها جمعة باستقبال رسمى من الرئيس أوباما. في اشارة الى وجود تحولات استراتيجية، في علاقة بلادنا بالعالم، فرضها تصاعد الحضور الأمريكي في شمال افريقيا - وفي افريقيا للحد من تنامي الدور السوفياتي والصيني- ، وهي التي بدأت في حوار استراتيجي مع كل من المغرب والجزائر. تزامن مع تراجع فرنسا في المنطقة، بسبب تفرغها لمشاكلها الداخلية –خاصة ذات الطابع الاقتصادي – ولغياب رؤية استراتيجية فرنسية لطبيعة دورها في مستعمراتها القديمة.
لا يستبعد أن يكون مهدي جمعة قد استحضر كل هذه المعاني، وهو يشد الرحال الى عاصمة الأنوار –باريس- وقد عبر عنه في تصريحاته لوسائل الاعلام الفرنسية، عندما قال "إن زيارته إلى فرنسا لا تهدف إلى طلب المساعدة لأنه يعرف الوضع في هذا البلد."، قالها بكل وضوح وصراحة: فليس لفرنسا ما تعطينا، في اشارة دالة على طغيان الطابع "المجاملاتي" على الزيارة الباريسية. كما أكد جمعة في تصريح لراديو "فرانس انفو" وبلغة ذات مفردات دبلوماسية لا غير، على إن تواجده في فرنسا يأتي في إطار تعزيز العلاقات والتعاون بين البلدين.
وأشار الى أن الهدف الأول للزيارة، هو من أجل "الترويج لتونس الجديدة"، حينما عبر أنه سيستغل تواجده في فرنسا للتسويق للوجهة السياحية التونسية ولدعوة الفرنسين للعودة بكثافة لتونس، الديمقراطية الناشئة، على حد وصفه. وهنا أكد جمعة على النجاحات التي تحققت في تونس وأنها تسير في النهج الصحيح من خلال بداية التعافي، ولعل أبرز عنوان لهذا التعافي قوله بل تأكيدع على "أن الوضعية الأمنية في البلاد تحت السيطرة" في رد على التخوفات في هذا الخصوص.
غير أن هذا لم يمنع رئيس الحكومة من التحدث بكل شفافية عن انتظارات التونسيين، وهذا ما دفعه للاعتراف بتواصل بوجود ما أسماه ب "خيبة أمل" لدى شريحة من المجتمع خصوصا في المناطق الداخلية التي شهدت ولادة الثورة لكنها في المقابل لم تتحصل على نصيبها من التنمية فضلا عن خيبة أمل الشباب الذي كان وقودا للثورة لكنهم لا يزالون عاطلين عن العمل. واوضح بلغة الواثق من نفسه بأنه "لا يجب الإستسلام". و على الصعيد السياسي إعتبرجمعة " أن تونس تمكنت من رفع التحدي وأنه يمكن النسج على المنوال نفسه بالنسبة للوضع الإقتصادي والإجتماعي ، مشددا على ضرورة الوثوق في قدرة هذه الديمقراطية الناشئة".
على أن تراجع الدور الفرنسي في العالم، لا يعني غياب لكل دور لها سواء في تونس أو في المنطقة، وهذا ما يؤكد عليه جل المحللين الذين يرون أن أن صلة التونسيين بفرنسا ذات طابع استراتيجي، وأن تونس لا يمكن لها التخلي عن فرنسا لعدة أسباب أهمها المصالح الإقتصادية فباريس هي أكبر شريك إقتصادي لتونس كما أن الجالية التونسية في فرنسا تقارب المليون هذا ناهيك عن العلاقات التاريخية الخاصة التي تربط الشعبين الفرنسي والتونسي وحتي في المجال السياسي خاصة في ما يتعلق بالحريات كانت فرنسا أكبر بلد أوى لاجئين سياسين تونسيين وجدوا مساندة كبيرة من منظمات حقوقية فرنسية.
وبرغم تنامي النفوذ والدور الأمريكي فان الكثيرون يستبعدون إستبدال النفوذ الفرنسي بآخر أمريكي رغم عدم إستبعاد أن يكون للأمريكيين ولغيرهم من الدول كألمانيا مثلا نفوذ مهم لكن سيبقى أقل بكثير من نظيره الفرنسي بسبب ما أشرنا اليه من عمق الروابط وخاصة الثقافية.