كتب -خميس الخياطي
من خصائص بعض الهزات الارضية التي تحدث في اعماق البحار أنها تولّد موجة قد لا تراها العين المجردة لضعفها وصغر امتدادها وضحالة قوتها كما على سطح اليمّ... ولكنها، في توجهها نحو اليابسة صخرية او رملية كانت، تصبح تلك المويجة طوفانا لا يكتفي بمسح الأخضر واليابس من على البسيطة، بل ياخذ معه مايعارضه طبيعته... و حينها، لا ينفع لا نوح ولا ابناؤه ولا حتى سفينتهم... هذه الموجة الغدّارة، النكّارة، القتّالة، الفتّاكة والتي من خصائص إعجازها ان لا اسم لها لا بالعربية ولا بالعبرية، لا باللاتينية ولا بالإغريقية، ناهيك عن اللغات التي ولدت البارحة، هي موجة نادرة، فريدة من جميع نواحيها، حتى ان لها معرف واحد وحيد في اللغة اليابانية وتستعمله اللغات الاخرى وهو الـ"تسونامي" الذي يعني في لغتنا الام:"تيار بحري في المحيط الهادئ ناشئ عن زلزال او انفجار بركاني"...
"الجهاد : نصر أو استشهاد"
فمنذ اكثر من اسبوعين، وتحديدا يوم 27 من الشهر الفارط والثالث من الشهر الجاري، بثت الوطنية الاولى حلقتان من برنامج "نبض الشارع"، الاولى بـ50 دق والثانية بـ53، وقد قام بإعدادهما وتقديمهما الصحفي عادل السمعلي (من مساهماته السابقة بعض التحقيقات الهامة في البرنامج الاهم "قضايا في المجتمع" لأعتدال المجبري زمن "تونس7") بمساهمة من منى الحيدري في التحقيقات وعبد الباسط التليلي في التصوير وحمزة بن ضيف في التوليف، دون ان يكون لأي من الحلقتين مخرجا يذكر (!!!). هاتان الحلقتان تعرضتا إلى موضوع من احرق المواضيع المطروحة حاليا في بلادنا منذ اندلاع ثورة 14 جانفي وتحديدا منذ انتصاب "داعش" الغراء... موضوع قد يشبه في جانب منه عبثية رواية "صحراء التتار" للإيطالي دينو بوزاتي وفي جانب آخر قد يتوقع ان يكون مثل فيلم "مذبحة بالمقطّعة" لمخرجه توبي هوبر (74)، موضوع له تفرعات إنسانية، إجتماعية، دبلوماسية، قانونية، امنية، إيمانية، وجودية... باختصار، هو موضوع يضع على كفة الميزان او العفريت مصير المجتمع التونسي: "عودة الجهاديين من سورية. ماذا اعددنا لذلك؟"
إضافة للإستجوابات في الشارع التونسي – وهي قليلة مقارنة باسم البرنامج – هناك أيضا شهادات لأهالي – وخاصة الامهات – من سافروا او سفّروا لسورية مع تحليلات وقراءات ومقترحات كل من الشيخ الزيتوني، فريد الباجي، الاستاذ الجامعي في التاريخ، عبد اللطيف الحناشي، إقبال بن رجب وهو رئيس جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج، الجامعي والباحث في التيارات الإسلامية أعلية العلاني إنتهاء بالجامعي والمحلل النفساني الدكتور زهير الهاشمي مع تدخلات برقية للناطق الرسمي بوزارة الداخلية...
كل الشهادات الإجتماعية كما الشروحات العقائدية والعلمية، تصب في وادي واحد وهو المأساة غير المتوقعة لهؤلاء الذين تركوا الاهل والأحباب والوطن لينصهروا في آتون لم يكن لهم فيه ضلع وأيضا الخشية من عودتهم إلى ارض الوطن بعد أن احترقوا بنيران صراع لم يكن لهم فيه اساسا لا ناقة ولا جمل... مع الإشارة إلى الحالات المتعددة المؤلمة للأهالي الذي فقدوا ذويهم دفعة واحدة ولا يعرفون شيئا عما آلوا إليه، أهم احياء أو أموات، هناك رأي يقول ان "الجهاد فرض في سبيل الله" إلى من يصرح أنه "مسالة دخيلة على تونس" إلى من تؤكد أن "الإرهاب يدخل في تجارة المخدرات، ثمة نوع متاع دمغجة بالفلوس... الإرهاب دمغجة... مخ...مخ..." إلى من يقول "يمشي يترانى (يتمرّن) في سورية ويجي يفرقع في تونس"... بين هذه الاراء المكلمة/المتنافضة لبعضها البعض، يكون المشاهد بين تيارين متضاربين يؤكدهما الشيخ فريد الباجي بقوله ان من يندمج في هذا "هو في الاساس يعيش في تصحر ديني، مزاجي، مريض نفسانيا، ناقم على الواقع" وأن في نظره ونظر من تملكوا به "الجهاد هو النصر او الإستشهاد"...
" هذا بشر باش يقصّولو راسو وهو يغزرلك "
الشروحات والتعقيدات واللولبات النفسية لمن أنخرط في نفق الجهادية الذي قدمه كل من أعلية العلاني وزهير الهاشمي من الجانب العلمي والشيخ الباجي من الجانب العقائدي- الوسطي كما رئيس جمعية لتونسيين العالقين بالخارج (أي بسورية جراء القرار المتسرع الذي أتخذه الرئيس المؤقت بقطع العلاقات مع هذا البلد) تصب كلها في عدم وضوح رؤية المؤسسات الرسمية لواقع وآفاق هذه المعضلة الوطنية رغم التطمينات "البلعوطية" للناطق الرسمي باسم الداخلية الذي يدخلك "من الباب ويخرجك من الخوخة"...
فمن قول الشيخ الباجي ان من ينخرط في التيار الجهادي (قاعدة/داعش) "يشعر انه حامي الدين، وأنه خليفة الله على الارض وأنهم خير الناس على الإطلاق والناس كلهم اعداء الدين وكل من خالفهم يرضون بالطاعوط... إذا، فهم كفار ونحن المسلمون ويحق لنا ان نفعل ما نريد لأننا اوصياء الله على الارض" وبالتالي، نستنتج ان "الندم مستحيل" أصلا لأن "الفصام العصابي" استقر فيهم. من هذا القول إلى شهادة المختص في شؤون التيارات الإسلامية، أعلية العلاني الذي يقول :"الذين رجعوا هم بالمئات، هم 400. الجريمة الاخلاقية لحكومة الترويكا هي انها لم تمنع من سيعودون عليك بالوبال (...) التوانسة إللي مشاو لسوريا ماكانوش يتعاملوا حتى يقاتلوا إلا مع التنظيمات الاكثر تشددا من الناحية الدينية (...) نحن امام عودة مفترضة قد تكون قوية. والسؤال المطروح والحكومة الجديدة ليست مسؤولة عن اخطاء حكومة الترويكا، لازم أن تاخذ الامر بجدية. هم 1500. ماش يرجعلك منهم 100 فقط. يلزم تقرأ حساب الناس هاذوما وتقوم معاهم بتحقيق امني كبير. نحن قلقون من الخلايا النايمة عندنا في تونس. ماذا ستفعل وقت يرجعلك الف جهادي متدربين على الاحزمة الناسفة والقتل والصواريخ المضادة للدبابات وللطائرات؟" أمام هذا التساؤل، المحلل النفساني زهير الهاشمي يتساءل هو ايضا :"مانعرفش عندكش فكرة انك تحضر على عبد حي يذبح... ساعات العلوش (الخروف)، الواحد يدور وجهه. نهار العيد وتسمي بإسم الله والناس فرحانين والكانون شاعل وتدور وجهك وماتطيقش...هذا بشر باش بقصولو راسو وهو يغزرلك بعينيه. موش حتى يغطيولو عينيه. الناس إللي شافوا هالاشياء، ماينجموش ينساوها ولا بد باش يدّاوى... راهو باش يروح منهم عدد كبير ياسر، مرضى، ماهمش مجرمين. ناس عاديين غرر بهم، فرضوا عليهم باش يعملوا اشياء... هذاكا مريض باش يعدي عمرو الكل مريض (...) ثلاثة منهم في شارع الحبيب بورقيبة، توقف البلاد. مفهوم الموت جديد علينا، عندهم كي يقتل الواحد يدخل للجنة"... وتضيع البوصلة.
من هنا أتت الاقتراحات في البحث عن حل خارج عن التجاذبات السياسوية الحزبية الموسعة كما الضيقة. أن تكون هناك مقاربة امنية، مع مراجعات عقائدية داخلية، مقارابات نفسانيةـ إجتماعية و كما يقول العلاني: "من المفروض أن تحاكم الدولة الناس الذين إستدرجوهم وارسلوهم لسورية..."
خفايا التّوبة قد تعبّد مسالك جهنّم
وهنا تأتي المعضلة السياسوية التي جاءت مع مشروع قانون "التوبة والرحمة" الذي إقترحه وزير الداخلية الحيادي- التكنوقراطي السيد رضا صفر حينما قال لأحدى اليوميات المحلية: (...) بالنسبة الى سوريا من غير الممكن حصر عدد المقاتلين في بؤر التوتر هناك، ونحن نرجح ان يكون العدد التقريبي في حدود 1800 تونسي باعتبار غياب أي الية واضحة تمكننا من تحديد العدد بدقة (غير أن الرئيس المؤقت منصف المرزوقي حددهم بالآلاف فيما توقع وزير الداخلية لطفي بن جدو أن يفوق عددهم هذا الرقم... في وقت أعلنت فيه السلطات السورية عن نحو 4 آلاف مقاتل بالنسبة للتونسيين. خ خ.) التنظيمات الإرهابية تقوم بغسل دماغ الشباب وتحاول التأثير عليهم شيئا فشيئا لتصنع منهم مقاتلين، وبالتالي فان "قانون الرحمة أو التوبة" غير موجه لتنظيم القاعدة أو لأنصار الشريعة، بل موجه للتونسيين الذين تم التغرير بهم والذين من الممكن ان يعودوا الى الجادة في مرحلة من المراحل (...) إن هدفه الاساسي وقائي، وقد يمكن العديد من التونسيين من العودة الى الجادة عوض مواجهة أحكام السجن."
النوايا الطيبة تعبد مسالك جهنم.
وما موقف القسم اليميني من حزب النهضة الإسلاموي المتمثل في السيد نجيب مراد (صاحب فعلة الدخول عنوة لغرفة أخبار الوطنية الاولى) في تعديل "قانون الإرهاب" وإدماج باب "التوبة والرحمة" فيه بخصوص من لم يقتل ولم يفجر ومن غرر بهم... دون ان يبين الكيفية العملية للفزر بين من قتل ومن لم يقتل، بين من تاب حقا ومن نام متصنعا...
هذه الحالة التي ذكرنا تعرف في باب علم النفس بـ "الحالات القصوى" القائمة على مشارف البنية العصابية من جهة والبنية الذهانية من جهة أخرى وقد تكون الهزة الاولى التي سينبعث منها التسونامي الذي ذكرنا في مستهل الورقة... هي حالة من حالات "الفصام العصابي" وهي شرخ نفساني معقد جدا بذكائه وتخفّيه، والتي تتطلب وقتا طويلا ومتابعة مستمرة ونباهة دائمة وذكاء مستمرا لأن العلة ناموس منغرس في قلب قلب المصاب به منذ صغر سنه...
أن تضع تونس، في هذا الزمن المتقلب وطنيا وإقليميا ودوليا، في ماء التوافق العكر بين اطراف كل شيطانه في جيبه بتعلة التسامح ودون استبيان الامر جديا وعلى المدى الطويل من طرف خلايا ليس لها في السوق ما تذوق، فكانك أدخلت ذئبا في ثوب حمل بين خرفان الزريبة... حينها لا ينفع الندم، فعلى تونس السّلام من "توبة" أمراء الفصام.