منذر بالضيافي
هناك خلاف كبير، لا نبالغ في شيء بالقول أنه وصل إلى مرتبة "لي الذراع"، بين رئيس الحكومة الحبيب الصيد، والأحزاب الأربعة المكونة للتحالف الحكومي، خاصة الحزب الأغلبي، وليس الحزب الحاكم، ونعني هنا "حركة نداء تونس"، حول التعيينات في حركة الولاة والمعتمدين، وفي عدد من الوظائف والمناصب الهامة، خاصة في الشركات والمؤسسات العمومية الكبرى.
1
هذا الاختلاف، الذي برز للسطح وتحدثت عنه وسائل الاعلام، يعود الى وجود تباين في منهجية ادارة البلاد، خاصة في هذه "المرحلة الانتقالية" الاضافية. حيث تقوم مقاربة رئيس الحكومة، وهو المتشبع بثقافة الدولة والعارف عن قرب بحكم التجربة من جهة، والتحرر من الضغوطات الحزبية والفئوية، أن ادارة البلاد في مختلف المستويات ، في مهام مثل الوالي والمعتمد ورئاسة مؤسسات هامة، تفترض توفر خصال أساسية لا يمكن أبدا التنازل عنها. وهو هنا –وهذا مهم جدا- يعتبر نفسه "حارسا" لهذا الاختيار.
في المقابل، تقوم "مقاربة" –وأضعها بين معقفين- الأحزاب، على التعاطي مع اسناد هذه "الوظائف السامية" في الدولة، بمنطق "الترضيات" و "الولاء" و "المكافاة" قصد مزيد تحسين "تموقع" القيادة داخل نسيجها الحزبي. يتأكد هذا التوجه، في حالة تونس اليوم، فالأحزاب المشكلة للحكومة – ومنها الحزب الأغلبي – نجد أنها تتعاطي مع حكومة "الصيد"، وفق منطوق ودلالات المثل الشعبي القائل: "داخل في الربح خارج من الخسارة". بمعني، أنها اختارت مساندة الحكومة "عن بعد"، لتجد لنفسها مخرجا في حالة الفشل (لا قدر الله)، ما يفسر تملص الأحزاب الأربعة من صفة "الحزب الحاكم"، التي نرى أنها قد تحولت الى "تهمة"، يتبرأ منها حتى الحزب الذي فوضه الشعب لادارة البلاد والعباد.
2
ان "معركة التعيينات"، تفترض التذكير بأن الأحزاب المشكلة للحكومة، لم تبدي حماسة في مساندة الحكومة الحالية، من ذلك أن "التنسيقية" التي كونتها لدعم ومتابعة عمل الحكومة، جاءت متأخرة جدا، وبعد نقد وجه الى هذه الأحزاب. التي أتهمت من قبل المتابعين، بأنها تعمدت ترك الحكومة ورئسها في "عزلة". أي بدون سند حزبي/سياسي وكذلك أيضا السند والحاضنة الشعبية. وهنا نقول أن البعض –من داخل الأحزاب المشاركة لا الحاكمة- ربما كان يراهن على اسقاطها في أجل لا يتجاوز الستة أشهر، عبر جعلها حكومة "امتصاص الأزمة" للمرور نحو تشكيل "حكومة سياسية"، وهو ما انتهي الي مسامعنا بالتصريح أحيانا وبالتلميح احيانا أخري. وبعيدا عن النبش في النوايا، فان المساندة المحتشمة للحكومة، تجعلنا نشير الى أن هناك أطرافا من لم يكن متحمسا للمنهجية والفلسفة التي شكلت على اساسها الحكومة في فيفري الفارط. أي لم تكن تنظر بعين الرضي لخيار "التوافق" و "التعايش" الذي كان وراء تشكيل الحكومة، وتحديدا وراء اختيار شخصية مستقلة لرئاستها.
3
تمسك رئيس الحكومة، برفض تدخل الأحزاب في "التعيينات"، لأنها تدخل في جوهر صلاحياته، وهو ما علمناه من مصادر مطلعة وعليمة قريبة من الحبيب الصيد، التي أكدت لنا أيضا أنه لا يرفض أبدا الاستئناس بآراء ومشورة كل من حوله وخاصة الأحزاب، لكن يرفض أن يفتكوا منه صلاحياته الدستورية، وبالتالي يحولونه الى "طرطور". وهو موقف نجده في توافق مع الثقافة السياسية للرجل، التي تعطي الأولوية للعمل المؤسساتي القائم على القانون، او ما يعرف لدي عامة الناس ب"هيبة الدولة"، والتي تفترض أن يكون المسؤول "مالي بقعتو" مثلما يقول المثل الشعبي، وهنا نذكر أن كل وزراء الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة ومنهم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي، لم يكونوا مجرد موظفين –مثلما حصل مع فترة بن علي- بل أصحاب مشاريع واصحاب قرار. وهو ما عبر عنه الرئيس السبسي في أكثر من مناسبة عندما أكد رفضه لمشاركته في الحكم والقرار، لأنه يدرك حينها أن القرار سيتحول الى "امعة". وهو لا يعني أبدا رفض المشورة والاستئناس التي تساعد على أخذ القرار ولا تفتح الباب للقفز على الصلاحيات أو استضعاف المسؤوال، وبالتالي استضعاف الدولة، وهنا نفهم المرجعية السياسية التي يشتغل في اطارها الحبيب الصيد.
4
حرص الصيد على أن لا ينازعه أحد في صلاحياته الدستورية، مأتاه أيضا ادراكه بأن الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي اختاره لهذا المنصب الهام وفي هذه المرحلة الفارقة من تاريخ تونس، لا يعارض بل يثمن منهجه في الحكم، خصوصا وأنه يتوافق مع ممارساته قبل أقواله. فالصيد الذي هو مستقل عن الأحزاب، وهذا لا يعني أنه غير "مسيس" كما يروج لذلك البعض قصد حشره في خانة "التقنوقراط"، في خطوة لاضعافه على اعتبار وأن المرحلة "سياسية بامتياز" كما يخيل اليهم، يدرك أن مصدر قوته هو قصر قرطاج، ومن التحالف بين "الشيخان". بالمناسبة، في لقاء جمعني منذ أيام برئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي (نشر محتواه على أعمد الصريح)، قال لي: "الحبيب الصيد، شخصية وطنية ونظيفة".
تصريح يحمل في طياته دلالات مكثفة، ف "الوطنية" قيمة اساسية بنيت على اساسها الثقافة السياسة التونسية، وجعل منها الرئيس الحبيب بورقيبة أحد ابرز وأهم شعارات الدولة الوطنية الحديثة. فالوطنية تعني أولا واخيرا الولاء لتونس ولخدمة شعبها. وهي "قيمة" أساسية وجوهرية، لدي كل اجيال السياسيين الذي تقلبوا على ادارة البلاد منذ الاستقلال، ومنهم رئيس الدولة الحالي ورئيس الحكومة الحالي.ما يقوي التناغم بين الرجلين، بين قرطاج والقصبة.في "شهادة" الغنوشي، هناك أيضا على تأكيد على قيمة أخلاقية مهمة جدا، وهي "نظافة" اليد في زمن تحولت فيه هذه القيمة الى عملة نادرة.
5
بعد فترة من التردد، نلاحظ أن أداء الفريق الحكومي تجاوز فترة "الصدمة" في التعاطي مع الواقع المتحرك الذي تعيش فيه تونس، الى الأخذ بزمام المبادرة، برغم تواصل نقاط الضعف، التي على الحكومة التسريع بتجاوزها، سواء في ما يتصل بالوضع الأمني في علاقة بالحرب على الارهاب، فلابد من الجرأة في اصلاح المؤسسة الأمنية، حتى تسترجع كل جاهزيتها المطلوبة في مقاومة الارهاب ونوازع الفوضى. أو في علاقة بالوضع الاجتماعي، الذي يفترض أكثر عدالة في توزيع الثروات، ومصارحة بحقيقة الوضع في البلاد وعدم "شيطنة" الحراك الاجتماعي، عبر فتح قنوات حوار مع الناس والانصات الى مشاغلهم قبل تخوينهم. وهي كلها عناصر سوف تساهم في تقوية سلطة القانون لا الحاكم.
6
في المقابل نرى، أن الأحزاب سواء التي هي تشارك في الحكم، أو التي هي في المعارضة، مطالبة بالانصراف الى وظيفتها الأساسية، في تأطير مناضليها، وذلك طبعا بعد الانتهاء من حل مشاكلها وخلافاتها الداخلية، التي تعيقها في أن تكون سندا للحكم وداعما لمنهج التوافق والشراكة السياسية، التي تعد أساس توفير ممهدات الاستقرار السياسي والاجتماعي، عوض التركيز على الصراع حول السلطة، الذي قد يضعف سلطة الدولة، في مرحلة تتربص هذه الدولة مخاطر حقيقية تهدد استمراريتها، فالارهاب يخطط لنسف الدولة عبر تفكيكها، وبهذا فان الطبقة السياسية مطالبة بحسن ادارة التعايش، حتى لا تفسح المجال لمن يخطط ويعمل بالليل والنهار على ادارة "التوحش".