منذر بالضيافي
توحدت أغلب مواقف المعارضة التونسية، التي لها تمثيلية أقلية في البرلمان، والتي يغلب على أدائها المنحي "الاحتجاجي"، حول رفض مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، الذي تقدم به الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي ينص على العفو عن رجال الأعمال في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، بهدف دفعهم للاستثمار من جديد، وبالتالي إعادة إدماجهم في الدورة الاقتصادية.
يذكر أن الرئيس السبسي، كان قد تقدم بمشروع المصالحة الاقتصادية، دون الرجوع للأحزاب السياسية، بما في ذلك المشاركة في التحالف الحكومي، في صيغة "مبادرة تشريعية" يتوقع أن تعرض قريبا على البرلمان، وهو حق يكفله له الدستور التونسي الجديد.
المعارضة ترفض وتشكيك
أجمعت المعارضة التونسية، الموجودة خارج التحالف الحكومي، على أن المبادرة الرئاسية تهدف الى "تبييض" رموز النظام القديم، الذي قامت عليه الثورة، كما شككت أيضا في مردوديتها الاقتصادية. في هذا الإطار، وصفت الأمينة العامة للحزب الجمهوري، مية الجريبي في تصريحات اعلامية، مشروع قانون المصالحة الوطنية ب "الخطر"، معتبرة "أنه يفتح باب الإفلات من العقاب".
وأضافت "إن مشروع قانون المصالحة الوطنية، يريد طي صفحة الفساد دون كشف الحقيقة والمساءلة و تحميل المسؤوليات، و خاصة محاسبة من أجرم في حق هذا الشعب، و نهب من أمواله". واعتبرت الجريبي "أنه إذا تم العفو دون المحاسبة فسيُوجد خطر على تكرار ما حدث في السابق مؤكدة على أن سياسة التعليمات و تبييض الأموال مطروحة للعودة بقوة" .وشددت أيضا على "أن هناك بعض الأسماء في مجال المال والأعمال والتي تحوم حولها شبهة في العهد البائد لا تزال حولها نفس الشبهة إلى اليوم وتحظى بالحماية السياسية من المنظومة السياسية الحالية".
مشروع غامض في حاجة للتعديل
من جهة أخري، يري العديد من المراقبين وخاصة الخبراء في القانون، أن مشروع المصالحة المقدم، يكتنفه الكثير من الغموض، وهو في حاجة لاعادة الصياغة، قبل احالته على مجلس نواب الشعب.
في ذات السياق أثارت تصريحات المسؤولين المقربين من الرئيس، من المدافعين –طبعا- عن المبادرة التشريعية الرئاسية، استفزاز المعارضين للمشروع من سياسيين وأحزاب وكذلك البعض من النخب الفكرية ومن قادة الرأي العام. من ذلك أن الأمين العام لحزب "نداء تونس" والمستشار السياسي السابق للرئيس قائد السبسي، محسن مرزوق، لوح باللجوء الى قانون "حالة الطوارئ" المعمول به حاليا، ضد كل من "تخول له نفسه التظاهر في الشارع ضد المشروع". كما اعتبر مدير الديوان الرئاسي، رضا بلحاج المعترضون على مشروع المصالحة "أقلية منهزمة في الانتخابات"، و"انتقد دعوات التجييش والنزول للشارع ضد مؤسسات منتخبة"، وفق تصريحه.
مقابل رفض المعارضة للمشروع، فان أحزاب التحالف الحكومي، لم تصدر عنها مواقف مساندة وداعمة لمشروع المصالحة، وغلب على تصريحات قادتها "العمومية" و الغموض"، برغم اعلانها كلها أنها مع المصالحة الوطنية وطي صفحة الماضي، لكنه موقف "سياسي" يخفي عدم رضا عن محتوي المشروع المقدم من قبل الرئاسة في صيغته الحالية.
النهضة بين المناورة والمبدئية
حركة "النهضة" الاسلامية، الشريكة في الحكم حاليا، لم تحدد بصفة نهائية موقفها من المصالحة الوطنية كما وردت في مشروع الرئيس السبسي، لكن الموقف الغالب والمؤثر داخل الحركة، مثلما أكدته لنا مصادر مطلعة داخلها، أنها ترفض المشروع المقدم في صيغته الحالية، وستعمل على تعديله.
مشروع المصالحة الرئاسي، أثار جدلا كبيرا وحقيقيا داخل "النهضة"، ويبدوا من خلال رصد كل المواقف داخل الجسم النهضاوي، أن الاتجاه الغالب يوكد علي قبول مبدأ المصالحة، لكن مع تحفظ يصل درجة الرفض للمبادرة التشريعية الرئاسية في نصها الحالي. من التصريحات التي عبرت بوضوح عن هذا الموقف "النقدي" تلك التي أطلقها عبداللطيف المكي، التي "قلل" من أهميتها لاحقا الناطق الرسمي باسم الحركة، مشيرا –كالعادة- أنها لا تلزم الحركة. وكان المكي –وهو المحسوب على جناح "الصقور" في الحركة قد أبدي ملاحظات حول مشروع المصالحة الاقتصادية، الذي وصفه بأنه يتضمن "رهانا خطيرا"، وفق تعبيره.
واضاف المكي بأن "مشروع قانون المصالحة يتضمن نفسا تعجليا مقصودا"، وهو هنا يشكك في "النوايا السياسية" لواضعي المشروع، مشيرا الى أن " هناك قضاء وقطب مالي وقانون عدالة انتقالية بإمكانها معالجة الملف". وانتقد الفترة المحددة لتنفيذ المشورع، قائلا: "مشروع القانون يضع أجلا أقصاه سنة لفضّ الملف وهذه مهلة غير كافية باعتبار أن الثروات المنهوبة قدّرها البنك الدولي بمبلغ يتراوح قيمته بين 10 آلاف و15 مليون دولار"، مشددا على أنه لا يجب أن" ننسى ايضا أن قروض رجال الأعمال غير المسددة للبنوك العمومية الثلاث تقدّر بـ12 ألف مليون دينار".
كما أكد المكي على أن "منظومة الفساد غامضة جدا.. والمبلغ الذي نهبه ين علي وعائلته ورجال الأعمال المرتبطين بنظامه كبير جدا.. لذلك من باب الحرص على مصلحة البلاد وثرواتها يجب أن تتم معالجة الملف بتأنّ.". وكشف المكي على أن "مصير قانون المصالح" بيد مؤسسات الحركة، ما يفهم أنه غير خاضع لسلطة رئيس الحركة والمقربين منه من جهة، وللتدليل على أهمية هذا المشروع بالنسبة للحركة وفي علاقة بقواعدها وبالفضاء الساسي عموما. اذ قال أنه "تم إحالة القانون على خبراء فنيين بالحركة لدراسته من النواحي الاقتصادية والمالية والقانونية.. على أن يصدروا تقريرا في الغرض ويكون بذلك المكتب التنفيذي للحركة الحلقة الأخيرة في التقرير قبل تحديد الموقف السياسي منه".
النهضة والبحث عن تموقع جديد
بكثر من الوضوح، وفي رسالة للداخل النهضاوي، وأيضا لمن يعول في الخارج، على أن الحسم بيد جهة بعينها داخل الحركة، اكد عبد اللطيف المكي، عل أن "مشروع قانون المصالحة مسألة مهمة قد يقتضي انعقاد مجلس شورى النهضة".
تصريحات عبدالطيف المكي، ليست فردية و "لا تلزم الحركة" مثلما صرح بذلك الناطق الرسمي باسمها، بل هي ترتقي لتكون "رسالة" للرئاسة وللحكومة وللحزب الأغلبي (نداء تونس)، مفادها عدم رضي أو قبول الحركة لوضع "الشراكة" أو "التعايش" كما هو حاليا. سواء في ما يتعلق بنصيب وموقع الحركة داخل الحكومة وفي بقية مؤسسات الدولة، وذلك بالنظر الى "حجمها المجتمعي" و "تمثليتها في البرلمان" مثلما يصرح بذلك بعض القيادات وجل القواعد، التي تضغط للتذكير به ووضعه على "طاولة المفاوضات" مع الشريك في الحكم.
لا يمكن للإصلاحات الكبرى، ولا للمشاريع "المهمة" بالنسبة للرئيس السبسي وحكومته وحزبه أن تمر، مثل قانون المصالحة الوطنية، الا عبر اعادة التفكير في التحالف مع "النهضة"، وهو ما يطالب به النهضويين ويضغطون على قياداتهم لتبنيه، وهو ما يعترف به وربما يتفهمه بعض قادة الحزب الأغلبي، وهو مضمون ما صرح به الأمين العام ل "النداء" محسن مرزوق، لوكالة "الأناضول" للأنباء مؤخرا، بتأكيده على أن "استقرار تونس في حكومة تضم "النهضة" و "النداء".
هذا ما سيجعل مستقبل التحالف الحكومي بين الحزبين محل اختبار ومقايضة، ماذا سيقدم الباجي والنداء للغنوشي والنهضة مقابل مرور مشروع المصالحة؟. في السياسة ليس هناك شي اسمه لوجه الله، كل شي بمقابل، وقديما قيل "الحساب يطول العشرة".