حين شرعت التلفزة الوطنية في بثّ برنامج "مش ممنوع" للصحفي عماد دبّور المعروف بجديّة برامجه الحوارية وثراء مضمونها قوبل المنجز بكثير من الارتياح داخل النخبة التي تنتظر من المرفق الإعلامي العمومي أن يرتقي شكلا ومضمونا ليلامس وظيفته الحقيقية في إنارة الرأي العام... لكنّ الموقف كان معاكسا داخل النطاقات التي يغلب فيها الطبع الظلامي "التطبّع المدني" فإذا بها سافرة مفتضحة تكاد تشي بمكنون حقدها الأسود على قيم الجمهورية...
البشير بن حسن وبصلف الدعيّ الذي "تدلّل" كما يجب ونشر سمومه بحرية تامّة زمن حكم الإسلاميين لتونس عبّر عن غضبه من بث البرنامج قائلا بالحرف الواحد «تخصيص القناة اللاوطنية التونسية برنامجا للداعي الى التنصير عماد دبّور جريمة في حقّ الإسلام والشعب المسلم ترقّبوا الردّ يا خونة»... هكذا عاد النبت الشيطاني الى معدنه التكفيري "الأصيل"...
فأمّا عن ديانة الصحفي صاحب البرنامج فهذا أمر يخصّه دون غيره، وأمّا عن "الجرم" فلا يوجد في قوانين دولتنا المدنية جرم اسمه النصرانية أو أيّ عقيدة أخرى... وإن لم يكن شيخ «الهانة» قد قرأ فصول الدستور الذي صادق عليه ـ ربّما على وجه التقيّة ـ نفر من المؤسسين النهضاويين الذين تمرّغ في «عزهم» أثناء صولاته وجولاته زمن التغوّل فإنّه من الضروري تذكيره بالنص الحرفي للفصلين:
الثاني الذي ينصّ على أنّ تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلويّة القانون والسادس الذي ينصّ على أنّ الدولة راعية للدين كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية.
وإذا كان الفصل الأول قد نصّ على أنّ الإسلام دين الدولة من باب الوجود الفعلي للأغلبية المسلمة فإنّ الفصول الأخرى نصّت على حريّة الإنسان في اختيار عقيدته من باب الوجود الفعلي لأقليات غير مسلمة ومن باب الحقّ الإنساني الذي تكفله القوانين ولا تُنْكرُهُ الأديان.
وأمّا من جهة القول بأنّ التلفزة لا وطنية" لمجرّد أنّها اقتنت برنامجا قدّرت على أنّه على درجة عالية من الحرفيّة والجودة فهذا أمر معيب في حق الشيخ وفي حقّ من فتحوا له أيّام حكومة الجبالي ورئاسة المرزوقي كلّ المنابر، واحتضنوه بل وأطلقوا يده لبث دعواه المسمومة حتى في السجون حتى لكأنّه أصبح "أكاديمية" تكفير وتسفير قائمة النات...
هل تقاس وطنية التلفزة باحتضانها لكلّ أبناء الوطن بقطع النظر عن معتقداتهم الخاصة ـ وهذا هو المنطق عينه ـ أم تقاس من تلك الزاوية الرديئة التي يسلطها الظلاميون على الأشياء لإثبات الذات بتأثيم الآخر...
إنّ الزاوية الدينية المتشدّدة التي يقيس بها بشير بن حسن الوطنية تؤدي آليا ووفق المعتقد الإخواني الوهابي الى اعتبار المجتمع مقسما بين ديار إسلام وديار كفر وهذا يعني أنّه اعتبر التلفزة الوطنية تلفزة "كافرة"!!!
وأمّا من ناحية ما تلفّظ به "الثعلب الذي برز يوما في ثياب الواعظين" والقائل بالحرف «ترقبوا الردّ ياخونة" فهذا حديث آخر... لقد مرّ من صيغة الفرد المستهدف عماد دبّور على أساس تهمة النصرانية الى الجمع المستهدف "الخونة" وهم في النهاية مجتمع بأسره يستند الى المدوّنة المدنية الجمهورية، ويحترم عقائد الناس وحرياتهم الشخصية ..وكيف سيكون ردّ البشير بن حسن: هل سيكون من جنس سحل لطفي نقض أم من جنس اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي أم ماذا؟ كيف سيكون الردّ؟ هل هو الاعتداء على عماد دبّور الصحفي الذي أثرى خزينة الإعلام التونسي بحلقات نوعية مع مفكّرين وفنانين ومثقفين وآخرهم الفنانة السورية رغدة على الوطنية وقبلها الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم على قناة أخرى؟ هل هو الاعتداء على التلفزة الوطنية في إطار إحيائية "اعتصام العار" الذي حصل أمام مقرّها سنة 2012؟.
إنّ هذا الدعيّ هو أصلا عار على الإسلام الذي ثمّن الجدال بما هو أحسن بين الأديان المختلفة وهو عار لحق وسيلحق بالأحزاب التي أطلقت يده وبحكومات النكبة التي سوّغت له الجولان للدعوة الى التسفير وتشريع «الجهاد» وما إلى ذلك من نكبات جعلت بلادنا عرضة للتصنيفات المهينة ومنها اعتبارنا «بلدا مصدّرا للإرهاب"
من هو الأحرى بأن يحاسب أهو عماد دبّور الذي لم يرتكب ذنبا في حق الدولة والمجتمع أم هو البشير بن حسن الذي مرّغ عقول الشباب المغرّر به في وحل الإرهاب والجريمة؟ من هو الأحرى بالمحاسبة، التلفزة الوطنية التي أثرت برامجها بإضافات جادّة أم التكفيريون الذين أدخلوا البلاد في حمّى الفتن وعممّوا الخراب"؟.
إنّ الطبع الظلامي يغلب "التطبّع المدني" وإنّ جينة التطرّف الديني مهما اختفت وراء الأقنعة الحزبية أو الدعويّة تصرّ على الظهور كلّما طرأ طارئ ينغّص عليها نشوة احتكار الحقيقة.
خليل الرقيق