آراء

النهضة تراود الجميع لاقتلاع شهادة المدنية : الفاكهة الحرام للديمقراطية الحلال !

يهمنا أن نخرج قليلا من رتابة الوقائع السياسية لننفذ الى زوايا أخرى خلفية، فنحن الذين امتحننا الدهر بحكاية النشوء والارتقاء الديمقراطي مدعوون فعلا الى فرز الأحداث دون تسليم أعمى بمدلولها الظاهر...
ومع العلم والقناعة بأنّ كل انتخابات الدنيا تشهد ألعابا ترويضيّةلاستمالة الأصوات، فإنّ نفس القناعة حاصلة بأنّ محيطنا السياسي قد تلوّث منذ 2011 بخلط معيب بين المفاهيم كأن نتلقى مثلا دروسا في التسامح الديني من حزب ديني أو نوازن مثلا بين القروسطية والحداثة في المعادلة السلطويّة... وقد يصل الأمر الى حدّ أن نوكل أمر العالم للجاهل فترتبك السبل ويفلت قِيَادُ المرحلة من زمام العقل...
كل شيء جاهز في السوق الثورية التي تمّ تدشينها منذ سنة 2011، اللاعبون على قاعدة المال بدل النضال، والسادة المنصّبون على ساحة حرية سياسية لم يعرقوا يوما من أجلها... وقريبا قد نرى بأمّ العين رؤساء بلديات برتبة «بيفو» أو «ستوبر» يستوي عندهم الشأن الكروي بالشأن السياسي.
صارت المغانم السياسية أبسط ما يكون على أرض الانتقال المسطّح الهش، ولا بأس إذا كان صانعو الملحمة ممّن يطوّعون «الفضيلة» كقيمة معيارية الى الصفقة كقيمة تبادلية.
"قدّر الله وما شاء فعل". وتمّ الإعداد الأولي لاستحقاق البلديات ولا نملك قانونيا إلا أن نتعامل معه بلغة القوّة القاهرة، لكننا نملك منطقيا وإنسانيا أن نستقرئ زواياه من باب العبرة والدرس حتى لا تلدغ الديمقراطية من جحر مرتين... وتستمر المتاهة.
قال سيمون سلامة، المرشح النهضاوي ذو الديانة اليهودية لاذاعة جوهرة اف ام «لست مرتاحا.. وهناك عديد الضغوطات» ثم أضاف أنه أراد من خلال مشاركته أن يثبت أن تونس أرض تسامح... وطبعا هذا ما تريد سماعه حركة النهضة أو هي قد رشحت الرجل أصلا ليقول هذا الكلام.
إنها لعبة إيحائية متعسّفة على التاريخ والجغرافيا، فالقول بأن السيد سيمون ليس مرتاحا، يعني أن النهضة هي الحزب الوحيد الذي هدّأ من روعه وخفف آلامه، وأخذ بيد يهود تونس، وكأن تونس لها إشكال مع اليهود!! وإذا كنا نعرف أن الأحزاب الاسلامية دون سواها هي التي تستبطن إشكالا مع الأديان الأخرى، فاننا نفهم هذه الحركة الالتفافية في سياق محاولة اقتلاع «شهادة في المدنية» يبدو أن النهضة تدرك في لاوعيها أنها تنقصها، ناهيك أن الأحزاب الأخرى غير مضطرة للقيام بترشيحات موجهة حتى يشهد لها الناس بالتسامح الديني، كما أن جميع التوانسة لم يطرحوا يوما إشكالا مع مواطنين من دين مختلف، وهم المعروفون قبل أن تتأسس حركة النهضة نفسها بالتسامح الديني...
سؤال آخر ـ في الوقت الضائع ـ يهم السيد سيمون المواطن ذي الحرية الكاملة في اختيار المشروع السياسي الذي يريد: ما الحكمة في ترشحه ضمن قائمات حزب حديث العهد بمسألة التسامح الديني في حين أن نفس التوجه مؤصّل داخل أحزاب تونسية طرحت المسألة منذ ثلاثينات القرن الماضي كالحزب الشيوعي والحزب الدستوري؟ هو حرّ على كل حال في إسناد تقييم إشهادي بـ«المدنية» الهاربة لعقود من تحت أقدام الاسلاميين، كما نحن أحرار بعدم تصنيف هذه اللقطة النهضاوية في باب «الفتح المدني المبين» لأن الصورة ظاهرة وجلية الخبايا والمكنون...
كلاسيكو "بَلَدي" مثير
الحكاية مختلفة عن قصة جورج وياه في ليبيريا، وعن قصة بيلي في البرازيل، فليس فيها أثر للاعب كرة تفقه في السياسة ولا لامس نارها ولا رمادها... الحكاية حكاية «سرقة موصوفة» للعقل السياسي نفسه.. أو هي استهتار بالذائقة الانتخابية يغذّيه استخفاف بوعي الجمهور...
ينطلق اللاعب السابق للنادي الصفاقسي عصام المرداسي على حمامة نهضاوية زرقاء، في مباراة للفوز بمقعد في بلدية صفاقس المدينة بعد أن كان مبرمجا لبلدية قرمدة في وقت سابق وهو يحلم بأن يكون يوما رئيس دائرة «الربض»... وقد يكون في المستوى الأعلى من الجاهزية البدنية لخوض السباق، ولا بأس في العرف النهضاوي إن كانت الجاهزية الذهنية أو الثقافية في المستوى الأدنى، المهمّ هو اجتياح الاستحقاق بأوفر حظوظ الهيمنة...
في نفس المنطقة تجهز النداء برئيس جمعية رياضية من الوزن الثقيل، جاهز ومجرّب ومثقف، مع إضافة اكسسوار شديد «الإغراء» للقائمة هو ابن اللاعب الأسطورة حمادي العقربي...
يجيب حسين جنيّح من سوسة، نحن هنا، فيعقّب كمال ايدير لا تنسوا شعب الإفريقي....
تماما كما لو كنّا في كلاسيكو مثير، وطوبى لمن حفروا تراب الأرض بأظافرهم بحثا عنك أيتها الحرية السياسية، طوبي لمن درسوا السياسة في أكاديمياتها الميدانية والنظرية والتطبيقية... إنهم مؤجلون الى حين يشبع نهم اللحظة المجنونة من عمر المتاهة «الثورية»...
مؤجلون.. الى حين انتهاء العمل بالترجمة الكروية للاستحقاقات السياسية... وقد حصل هذا قبل البلدية وقد يحصل بعدها...
حصل هذا عندما صار بإمكان لاعب سابق ترك مقاعد الدراسة بصفة مبكّرة جدّا جدّا، وزير رياضة في عهد الترويكا السعيد...
حصل هذا حين تكفل المدرّب الوطني نبيل معلول مؤخرا بإصدار المواقف الديبلوماسية على هامش مباراة كروية، فأهدى الانتصار لـ«قطر المحاصرة»، وتربّص بكامل فريقه في «قطر المحاصرة"...
ولا ينقصه الآن إلاّ تقمص دور سفير فوق العادة، أو مفوّض سام للشؤون العربية والدولية...حصل هذا ويحصل في تونس، فمن أنتم يا نشطاء السياسة في مهادها، ويا من تجرّعتم ثمنها الباهظ ودفعتم فاتورتها، أمام "الأرجل الذهبيّة" لكبار الملاعبيّة؟؟
هبطنا للانتخابات كونسونتري وبفضل القرينتة" وفقنا ربي"... يقول ـ افتراضياـ لاعب فاز بموقع مستشار بلدي بالمجهود السياسي الأقل من الأدنى، والرصيد المعرفي الأقل من الضعيف...
يجيبه آخر من حزب آخر فاز في دائرة أخرى "احنا هبطنا بخطة واضحة، و"سكرنا" المنافذ على المنافس"...
وقد يصبح هذا وذاك، مسؤولا أوّل يسدي تعليماته الى الإطارات من الطبيب الى المهندس المعماري الى الخبير العقاري... ولك الله يا تونس...
وقد نتوصل بفضل عبقرية النظام المحلي اللامركزي المرتقب، الى مأسسة التباغض الجهوي عبر «رموزنا» الكروية المنتخبة، أو ليست الملاعب اليوم أول منتج للفرقة والعنف اللفظي والمادي والتعصب الجهوي والمحلي؟.
في الانتخابات التشريعية الفارطة، لعبت السياسة في منطقة الكرة، وجاء دور الكرة الآن لتلعب في منطقة السياسة، عساها تضفي شيئا من «الحرارة والتشويق» على استحقاق بارد من المرجح حسب الاستطلاعات أن يكون بدون حضور الجمهور.. الى حين توصل المهجة الكروية النهضاوية الى تخفيف الحصار عن قطر إقليميا، وتوصل «الحمامة الزرقاء» الى غزو صفاقس من بوّابة لاعب «موهوب» لم يمارس السياسة للحظة في عمره... الى حين يجتمع اللاعبون واليهود والنصارى كشهود على «المدنية النهضاوية»... والى حين ذلك يؤجل المعنى السياسي للاستحقاق... الى دورة التدارك.
إلى حين ذلك، يغمرنا التساؤل: كيف لأي منافس ديمقراطي أن ينازل هذه الماكينات الاسمنتية المسلحة في "نتخابات شريفة"؟ كيف لأي صاحب رؤية وبرنامج أن يقارع من يستطيع الفوز بلا رؤية وبلا برنامج؟؟ كلاسيكو "ساخن" في استحقاق بارد، هذا توصيف يليق بمستوى حدث نزل بمستواه منذ خطواته التمهيدية، أو هو اختزال لأزمة قيمة سياسية بدأت تتفاقم... وليس أكثر من هذا عقابا لمن ترك الأرض مهمّلة فاجتاحتها الطفيليات من كل حدب وصوب... إنها لحظة تليق بالحقبة "الثورية" المسطحة، المفرغة من المعنى والمدلول...
مستقلون للإيجار
قد يكون تجهيز القائمات الانتخابية بما يقارب ٪50 من "المستقلين" مكلفا بعض الشيء لمبنى مونبليزير، كأن يسفر عن استقالة أو اثنتين من باب الغضب القيادي أو القاعدي، أو عن احتجاجات داخلية، لكنه بالنسبة لفريق الشيخ راشد أمر مربح على صعيد آخر... فالحركة قادرة في أي لحظة على تحويل "زهدها" وورعها الى براغماتية فجّة، وربّما "وقحة"..
إنّ الهدف بالنسبة للحركة هو الايعاز للرأي العام ـ الخارجي منه على وجه الخصوص ـ بأن فضاءها الايديولوجي المغلق والجامد صار مفتوحا وبأن "الاستقلالية" كنزوع معروف بمسافة معينة إزاء التحزب، قد تتروض وتندمج في فضائها الحزبي «المرن»... وهذا أمر تحتار فيه الألباب... أوّلا لا يمكن لـ«مستقل» دخل الانتخابات في قائمة حزبية، إلا أن يعمل في المؤسسة المنتخبة تحت يافطة ذلك الحزب وبرنامجه ومواقفه السياسية، بمعنى أن الشخص المعني يكون قد غادر الاستقلالية نهائيا بمجرّد الترشح في قائمة الحزب...
ثانيا، لا شيء يمنع الحركة أو غيرها من الاستئناس بـ«مستقلين مزيفين» أي بجزء من البطانة الاحتياطية المكوّمة داخل النطاقات الجمعياتية والدينية...
ثالثا، بإمكان أي حزب «ماكينة» أن يراود فئة معروفة من المتسلقين الذين لا يملكون أصلا قناعات، بل تجذبهم مصالح التموقعات الشخصية، وهذا صار سهلا في مناخ سياسي فتحت أبوابه مشرعة لشتى أنواع الوصوليين...
والمشكلة هنا ان لعبة الإيجار السياسي والمالي التي تغلغلت في المشهد ضربت المعنى الحقيقي لمعيار الكفاءة السياسية ولقد سبق وأن لعبت حركة النهضة هذه اللعبة فحوّلت وزراء مستقلين إلى نواب حزبيين ( مع خالص التحيات للسيد نذير بن عمو)... والمحصلة أن الأنشطة الإيهامية للحركة قد خلقت لها مناخا «خصبا» للاستثمار في النهم والطمع الشخصي والزبونية السياسية ولعبت على كلّ الأوتار لاستمالة صيادي الفرص السّهلة...
ماذا بعد ؟
إنّنا أمام "فاكهة حرام" لديمقراطية "حلال" يَقطفها الإسلاميون من كلّ النطاقات الممكنة، من أوّل الذين لا يفرّقون بين "احتلال المساح" لاستبداد المقنّع باسم الديمقراطيّة الشفافة، وهذا كثير على تونس، التي كابدت الويلات منذ 2011 من غزو أشباه السياسيين وحتّى الشخصيات الفولكلوريّة للمجلس التأسيسي والحكومات والإدارات ... وما إلى ذلك من ظواهر خلّفت الشّلل التنموي والعطالة والرّكود ...
ماذا بعد ؟ إحكام الطّوق على مفاصل الحكم المحلّي تمهيدا لتشغيلها بالسرعة القصوى في الاستحقاق الوطني لسنة 2019 ؟ إعادة إنتاج لحظة أكتوبر 2011، بشكل ممأسس لا يمكن معه تثبيت فكرة التنافس السياسي والتداول على السلطة ؟ خلق وضع هيكلي متعملق لبنية سياسية متهاوية آيلة للسقوط ؟
كثيرة هي الهواجس المرتبطة بهذه الالتفافة "الجماهيرية" على استحقاق بدون جمهور ... فحركة النهضة تدرك أنّها ستكون المستفيدة الأبرز من الفراغات التي سيخلّفها العُزوف عن التصويت حين تعمل بكتلتها الانتخابية الثابتة ذات الولاء الاسمنتي، كما تدرك أنّ نداء تونس والأحزاب الأخرى الحداثية ستتنازع متناثرة نفس القاعدة الانتخابية للطيف المدني...
وبعد كلّ هذا، بعد كلّ ما قاله الخبراء عن مناخ غير ملائم لخوض الاستحقاق، وبعد أن صار المناخ غير الملائم أمرا واقعا و«قوة قاهرة»، ما الذي يمكن فعله لانتشال تونس من قبضة المضاربين وصيادي الفرص؟ هل نراهن على صحوة الوعي الانتخابي، في سياق سياسي هشّ، صارت فيه آلام الفقراء مادة للـ«رشوة السياسية»؟هل نراهن على صحوة مواطنية تضمن وجودا محترما للتقدّميين في استحقاق ماي القادم؟ المهمّ في النهاية أنّ لا نقنع صاغرين بالمقدّمات الرديئة التي تعوّدناها في مسارح انتخابيّة سابقة...
والأصل في الشيء أنّ المعركة الحقيقية في تونس هي معركة تقدّميين ورجعيين، وهذه مسألة لا يمكن طمسها، رغم أنّ قواعد اللعبة الرّاهنة وجدت أصلا لحجبها عن الأنظار ...
وعوض أن يعمد البعض إلى مراودة تراب الأرض بحثا عن اقتلاع شهادة المدنيّة، عليه أن يكون صادقا مع نفسه، ويفصح عن قناعاته واضحة سافرة ... فلا ضير في صراع ديمقراطي بين الأفكار والتوجهات، بل كلّ الضير في تناغم مزيّف ينتج واقعا سياسيا مزيّفا.

خليل الرقيق