آراء

شككت في الاستقلال ونبشت في غبار العقود : هيئة بن سدرين... ضد الجميع

 لم يحصل أن أثارت هيئة إشكاليات أكثر مما أثارتها هيئة بن سدرين، ولم يحصل في التاريخ على ما يبدو أن لبس حكم ثوب الخصم مثلما لبسته هيئة بن سدرين. والأغرب أنها تتصرف وكأن التمديد لها من التحصيل الحاصل، والحال أن الحسم البرلماني في المسألة محدّد ليوم 24 مارس القادم!!!

أينما حلّت، تصطاد فرص الاثارة، وتنبش في غبار العقود، وقد توهمك في عزّ لعبها على الحبال بوطنية جيّاشة، لولا أنك تذكر أن السيرة الذاتية لـ«الرئيسة» موشّحة بتبرير وتبييض وتسويغ التدخل الخارجي...
وحين تلعب هذه "الوطنية" خارج معايير المؤرخين والتاريخ، تصطدم البلاد نفسها بمطبات هي أحوج الى تفاديها في زمنها الصعب...
طالت "بركات" الرئيسة فرنسا مؤخرا، وكم هو "جيّد" أن تتعولم الحقيقة وتتكونن الكرامة لولا العلم بأن هذه التهويمات في الماضي هي تكتيك مراوغ للتمدّد في الحاضر، بل والتغوّل عليه بسياسييه ومؤرخيه وحقوقييه.
أياما قبل عيد الاستقلال، وأياما قبل حسم مسألة التمديد من عدمها في مجلس نواب الشعب، لا يوجد ما يدير الرقاب الى «الامبراطورة غير المتوّجة" أكثر من دور "الزعيم الوطني المقاوم"...
 
لقد تسلّمت من فرسنا على قولها في اذاعة جوهرة «أرصدة تاريخية من الحجم الثقيل» وأن «أرشيفا هاما تم الاستحواذ عليه من فرنسا. وأنه سيتم دعوة الدولة التونسية رسميا للمطالبة بجميع أرصدتها الأرشيفية من فرنسا" أما الأجمل في «صحوة الزعيمة» فهو قولها أن «تونس مازالت تحت وضع الاحتلال على مستوى الارث التاريخي"... فيا لَدَمِكَ يا حشاد، ويا لمنفاك يا بورقيبة، لقد قرّرت"الرئيسة" أن تُبخّس المفخرة وتراجع مفهوم الاستقلال.
"الرئيسة" اكتشفت بطرقها الخاصة "حقائق خطيرة تتعلق باعتماد بنزرت قاعدة لاستخدام النووي من طرف حلف شمال الأطلسي..." واكتشفت أن «اتفاقيات أبرمت عام 1955 تتعلق باستغلال فرنسا لكل خبايا الأرض"... وقد يكون كل ما اكتشفته أو جزء منه صحيحا، من يدري؟ الذي يدري هم المؤرّخون، أو المحكّمون في النزاعات الدولية، أو ذوو الاختصاص الذي لا نعرف «للرئيسة» إلماما به...
 
ردّت فرنسا على "الهديّة" بأحسن منها، فأصدرت عبر سفارتها بتونس بيانا توضيحيا ورد فيه أن «الوثائق التي أعادت نشرها هيئة الحقيقة والكرامة مؤخرا، هي معروفة لدى جميع المؤرخين ومتاحة أمام الجميع منذ وقت طويل» كما ورد في البيان أن «فرنسا تضع وبصفة طوعية على ذمة الباحثين الأرشيف الذي بحوزتها من أجل توضيح العلاقات بين البلدين قبل 1956».
 
أمّا بخصوص استغلال الثروات الطبيعية فأوضحت سفارة فرنسا «أنه لا توجد أيّ مؤسسة فرنسية تتمتع بشروط تفضيلية أو بحقوق خاصة لاستغلال الموارد الطبيعية في تونس، في قطاعات المياه والفسفاط والنفط»، والكلام طبعا للفرنسيين، الذين تعود مسألة تصديقهم أو تكذيبهم الى أهل الاختصاص والخبراء والباحثين.
والذي يهمنا في الأمر سواء صدقت معلومات الرئيسة أو جانبت الصواب، هو ما الجديد ولماذا الآن؟ أهي مسألة مزاج مضاد للإرث البورقيبي الذي تمرّغ في جلسات الاستماع وشبع تجريحا واتهاما؟ أهي مسألة تحويل صبغة من هيئة لانصاف الضحايا الى هيئة لكتابة التاريخ؟ أهي مسألة مزايدة على روّاد الحركة الوطنية وتقليل من شأن منجز الاستقلال؟ أهي قبل هذا وذاك مسألة تسويق للسنة الاضافيةوحملة إعلانية لها، وهي التي لم تتحول بعد الى حقيقة قانونية؟
شيء من هذا ومن ذاك صار بائنا في خطّة هيئة صارت تقريبا منزوعة الصلاحية الزمنية، وتشتّت أعضاؤها بين مستقيل بالارادة ومقال بالجبر والغصب... ويبقى سؤال واحد يلحّ على الذهن: هل أصبح الاطار التنفيذي لفكرة العدالة الانتقالية هو المشكل بعد أن كان هو الحلّ؟..
لم يحصل أن رأينا حَكَمًا ـ وهو الذي يرمز منطقيا الى الحكمة والتجرّد ـ طرفا في كل النزاعات، وخصما لكل الأطياف... والملاحظ في كل السياقات هو أن ما أثارته الهيئة من إشكاليات يفوق بكثير ما حلّته من مشاكل، حتى أنها أصبحت اليوم عامل توتّر داخلي... وخارجي!!
وعلى ذلك ورغمه، مدّدت "الرئيسة" لنفسها استباقيا بل أوحت بأن بقاء هيئتها رهان استراتيجي يتوقف عليه مصير الحقيقة ومستقبل الكرامة، ولم تقرأ حسابا حتى للبرلمان الذي تشتّت شمله وفقد زمام انسجامه وانشطر بين أنصار "أتقياء" لهيئة الرئيسة، ومعارضين أشداء للتمديد لها...
فرنسا... الثروات الباطنية المنهوبة... الارث التاريخي المحتلّ... كل شيء جاهز لـ"استقلال جديد" قد تأتي به "الفارسة المغوارة"... مع الأمل في أن لا تستجير من رمضاء فرنسا بنار "بول بريمر"... وتستمر المتاهة...
 
خليل الرقيق