آراء

المسار الانتخابي و المسار السياسي : صراع الحكومة والاتحاد

 حين تتوزع أزمة بهذا العمق على عدة مسارات متزامنة يصبح الحديث في الشأن السياسي نوعا من التجديف في جغرافيا العواصف، وللعواصف كما نعلم وجه ظاهر يرى بالعين المجردة وآخر خفي يختمر في حقل متشابك من العوامل، والمسببات...

 
الأزمة تتوزع على مجالات ثلاثة وفق تقديرنا:أزمة مسار انتخابي يسير بنسقه الباهت الى مؤديات درامية، وأزمة مسار سياسي صار يتشكل في أكثر من غرفة قرار، وأزمة اصطدام حكومي نقابي، قد تفضي ان تواصل الى وضع بصمة في كل المسارات، ان هي أيام حتى يتوضح نسق المعركة التي تبدو محتدمة بين حكومة أرادت اختزال صراعها مع الاتحاد في ساحة المدرسة، وبين اتحاد يريد أو هو مضطر لنقل هذا الصراع من المدرسة الى قطاعات أخرى، وعيا منه بالفخّ المحكم الذي تنصبه المحركات الخفية للعاصفة الحالية...
 
ما نعرفه ان العمل بآلية "المناولة" في حقل التأجير قد بدأ ينقرض على وقع المتغيرات، لكن ما نعرفه أيضا أن "المناولة" في حقل السياسة تظل "منتعشة" بل "مزدهرة" فإذا كانت المتغيرات السياسية في تونس والمنطقة العربية قد نشطت تحت سقف الحروب بالوكالة ـ حروب الجيل الرابع القائمة على تحقيق الأهداف بإرادات الغير ـ فإن ادارة الشأن السياسي الداخلي، تموج بدورها تحت سقف منظومة حروب الوكالة، حيث تعمل الفواعل الظاهرة لصالح فواعل خفيّة....
 
الحروب بالوكالة، قد يكون المصطلح وجد حصرا لتوصيف المعارك ذات الطابع المسلّح العنيف، لكنه قد ينطبق ضرورة على المعارك ذات البعد السياسي والنقابي، خاصة ان ما نعيشه الآن، وما عشناه طيلة السنوات الأخيرة يتحرّك في أفقين، أفق ظاهر هو عبارة عن سُلَط قرار مباشرة ومرئية، وأفق خفيّ هو عبارة عن مراكز قوى تنشط في الظلام، وربّما خارج كلّ رقابة لتوجه المشهد عن بعد، وفق مصالحها ومآربها.
 
أوّلا: المسار الانتخابي من يروّض الآخر؟
 
يكفي أن نستجلي الحرب بالوكالة في المسار الانتخابي من خلال معطيات بيّنة، دقيقة، لا تحتاج من فرط ما هي مكشوفة لتقنيات فكّ الشيفرة السياسية...
لقد انخرطت الحكومة بـسذاجة منقطعة النظير ـ إذ لا شيء يوحي بالدّهاء والحسّ التكتيكي ـ في شرعنة تقديم الاستحقاق البلدي على ما سواه من ملفات بدت أكثر حرقة وراهنية وعلى رأسها معالجة مؤثرات الانحدار الاقتصادي والاحتقان الاجتماعي...
 
ولكي لا يكون الكلام مجرّد من البرهنة والاستدلال ، يكفي أن نعود الى مداخلة رئيس الحكومة أمام البرلمان في جلسة كانت مخصّصة لمناقشة الوضع العامّ في البلاد، فإذا بها تتحوّل في خطابه الافتتاحي والختامي الى مناقشة الوضع الخاصّ للاستحقاق البلدي!! والأدهى أن استعداءً بدا ظاهرا من السيد يوسف الشاهد لكلّ من وضع علامة استفهام على جدوى هذا الاستحقاق في غياب شروطه التنظيمية المثلى وحضور أكثر من مؤشر على انحداره الى قبضة الماكينات الحزبية المتنفذة ـ وخاصة الإسلاميين ـ بموجب عملية توجيه عن بعد....
 
وبرؤية بسيطة يمكننا استنتاج أنّ حركة النهضة التي استعدت منذ 2011، لاكتساح النطاق المحلي وتطويقه وتوظيفه لمخطط التمدّد، قد أوكلت الى السيد يوسف الشاهد بالمناولة خوض الصراع على الجبهة الانتخابية، على أن يَكِلَ اليها بالمناولة ـ وهذا واضح ـ مهمة الدفاع عن بقاء حكومته التي طوّقتها دعوات التحوير بل التغيير من أكثر من زاوية سياسية ومنظماتية. أليست هذه حربا بالوكالة تلك التي يخوضها الشاهد دفاعا عن "انتخابات حركة النهضة" وتلك التي تخوضها حركة النهضة دفاعا عن بقاء حكومة يوسف الشاهد؟ ومن يروّض من في هذا كلّه؟ المسألة شبيهة بالقاعدة المألوفة في الجيوستراتيجيا: إذا لم يتعادل الطرفان في الحجم والقوة، فان الهيمنة تكون للأكبر على الأصغر ويسهل في تونس أن نعرف من من الطرفين المتعملق حجما، والمتطاوس بقوة المال والعتاد...وهذا يكفي للهمس بأن الحلقة الأضعف في المناولة ستكون الأكثر عرضة للخسارة (هذا إن لم يخسر الاثنان معا، لسبب... أو لآخر...).
 
ثانيا : المسار السياسي... مناولات غامضة
 
أكثر من غرفة قرار... ولا قرار، لعل هذا هو المسار السياسي الذي فرش له المجلس التأسيسي بساطا من كل ألوان "التعدد الديمقراطي" فوق أرضية تعتمل تحتها كل أشكال الموازي..
لنتذكر جيدا كيف تم الانطلاق في حكم تونس برئاسات ثلاث هي من حيث المظهر تجسيم مثالي للتداولية الديمقراطية، لكننا اكتشفنا سريعا ان تونس تحكم من خارج المؤسسات، بمافيا مالية من هنا، وشيخ من هناك، ثم عرفنا أن سلطة القاع هذه هي التي تدير كل شيء، في وقت اضطلع الرؤساء ـ بالمناولة ـ بمهمة إضفاء الواجهة الديمقراطية على مشروع الاستبداد الديني... هذه نبذة ورائية مهمة قد تعيننا في تفسير الراهن المأزوم، ورغم عدم إنكارنا لواقع أن انتخابات 2014 أفرزت موازين قوى جديدة، فانه من الضروري الاقرار بأن زرع الجينات الموروثة من حكم الترويكا داخل المشهد الجديد، قد جعل "سلطة القاع" تنتعش على حساب سلطة الواجهة... ظلت السلطات موزعة حسب تراتبية النظام السياسي حيث يحكم الكل ولا أحد يحكم، ثم تكاثرت حروب الوكالة: النهضة تخوض حربا بالوكالة في السياسة والاقتصاد والمبادلات والاستثمارات لصالح قطر وتركيا، الحكومة تخوض حربا بالوكالة ضد القطاع العمومي لصالح الصناديق والدوائر المالية الدولية، وبالطبع لصالح المضاربين وصيّادي فرص الخصخصة بأبخس الأثمان...
 
الأحزاب العدمية المشتقة من إرث سنوات الضياع (كالحراك وغيره) تخوض حربا بالوكالة ضد تماسك الدولة لصالح قوى خارجية ذات أطماع معلنة، وأجندات مربكة للاستقرار...
الوجوه "الحقوقية" على غرار رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة المنتهية ولايتها قريبا، تخوض حربا بالوكالة ضد الذاكرة الوطنية وضد مفهوم السيادة والاستقلال لصالح حزب ديني، وقوى أخرى "لامرئية" لا ترى ضرورة لتصالح التوانسة، بل تبدي ارتياحا لتمرير تطبيقة "الاستعمار الجديد" على كيانات مترهلة منزوعة السيادة.
الحكومة التي من المفترض منطقا أن يكون رئيسها منتميا الى حركة نداء تونس، تخوض حربا بالوكالة، وضد الجميع لصالح حركة النهضة... وهذا موضوع يبدو واضحا من خلال ما يحدث الآن من استهداف مباشر لاتحاد الشغل...
 
ثالثا : الحكومة والاتحاد... المسار المربك
 
لن تمر على أي عقل راجح حكاية أن الصراع الحكومي النقابي محصور في قطاع التعليم، فالذي يجيش أمامنا من تحلل خطير للقطاعات الاستراتيجية الممولة للاقتصاد، وأولها الصناعة التي يكاد تغلق مصانعها بالكامل تكالب المورّدين العشوائيين على "الباب العالي" وغيره، والذي يتوضح أمامنا يوما بعد يوم من نوايا التفريط المتدرّج في مؤسسات القطاع العام، والذي نعاينه جميعا من انسداد لأفق التشغيل، وامتداد لشظف العيش، وتدهور للقدرة الشرائية للمواطن، كل هذا لا يمكن اختصاره في مسألة أزمة قطاع الثانوي وحجب الأعداد...
الذي يحصل تحديدا، هو أن الحكومة ـ بالوكالة عن حركة النهضة التي استهدفت الاتحاد منذ وضعت قدمها في السلطة سنة 2012 ـ تحاول أن تختزل المعركة مع النقابة في ساحة المدرسة، وليس "أفضل" من ذلك بالنسبة لها ـ نيابة عن الاسلاميين طبعا ـ لخلق فجوة نادرة الوجود بين اتحاد الشغل وعموم المواطنين المنشغلين بمستقبل أبنائهم، والهدف واضح وهو إزاحة الطرف الأقوى في معادلة التوازن، في غياب نسيج سياسي مضاد من الوزن الثقيل.
والأدهى أن حربا فرعية بالوكالة أيضا، يقودها نفس الحزب الذي يستهدف الاتحاد، من داخل الأنشطة والفعاليات النقابية، حيث كثيرا ما شاهدنا تحشيدا نهضاويا تحتيا داخل المسيرات والاعتصامات في قطاع التعليم وغيره لتأجيج الاحتجاجات وإيصالها الى نقطة اللاعودة...
 
ويبدو أن الهياكل النقابية في المستوى الأعلى متحسسة لهذا الأمر، متعاطية معه بحذر تكتيكي بعد توغلات واختراقات معلومة، في حين أن الهياكل القطاعية ومنها التعليم يجب أن تتنبه أنها بدفع الأمور نحو التصعيد الأقصى، إنما تخدم في النهاية أجندة الإسلاميين لضرب الاتحاد، القوة المتبقية في تونس، والتي نجت بفضل عراقة نسيجها ووطنية قياداتها من المخطط الجهنمي للتصفية عقب انتخابات2011.
 
اللعبة هي كما يلي: تدفع النهضة بيوسف الشاهد الى ذروة التصعيد ضد الاتحاد بعنوان "هيبة الدولة" ثم تدفع بقواعدها الى قلب معارك الاتحاد بعنوان "تبني المطالب" وتؤجج المعطيات وصولا الى افتعال شرخ، تمر منه الى إنهاك الجميع، الاتحاد والحكومة، وتتحكم بموجب ذلك في أوراق اللعبة...
هذه لعبة أكثر من واضحة، وقد تكون غائبة أو شبه غائبة عن الذهن «النائم» لفريق القصبة، لكنها حاضرة على ما يبدو في ذهن القيادات النقابية العليا، والتي صارت تفكر في استجماع هياكلها لنقل المعركة من العتبات الممنوعة لساحة المدرسة الى الفضاء الرحب للمشهد الوطني برمته...
وإدراكا لكلمة "العتبات الممنوعة" أي عدم قابلية المواطن لأي مساس بالمدرسة أو توظيف لها في الصراع السياسي، تصبح أمام الاتحاد الذي وعد بإنقاذ السنة الدراسية إمكانية أن يرضي المواطنين من جهة طمأنتهم على مصير أبنائهم، وأن يحرج الحكومة من جهة، باستنهاض ملفات خلافية أخرى حول الوظيفة العمومية والقطاع العام، والمطلبية العمالية، وما الى ذلك من محاور ستعيده عمليا الى صدارة الفعل الاجتماعي، وصولا الى التأثير المباشر في التوازنات السياسية...
 
هذا طبعا ترجيح لما يمكن أن يحصل، بعد أن طوّق الاسلاميون المشهد بوكلاء يعملون نيابة عنهم على استنزاف الساحة من الفواعل المؤثرة، حتى تخلو تماما لتطبيقة الاستبداد الجديد ومخطط الإجهاز على الدولة المدنية...
 
ويكفي أن نقول هنا من باب إيقاظ العقول الغافلة، أن المستفيد مستقبلا من مخطط تنفير المواطن من التعليم العمومي، هو القطاع الخاص الذي يحرك أحلام «المستثمرين» في المعرفة، ويحرك في الآن نفسه نوستالجيا التعليم الديني الموازي، والذي أحدثت له على ما يبدو أرضيات أولية ومنها "جامعة" اتحاد علماء المسلمين التي لم تقرر الحكومة بعد، النظر في شأنها رغم عدم حصولها على ترخيص من وزارة التعليم العالي...
إذن نحن في وارد سلسلة من الأزمات تتوزع سياقيا على ثلاث مناطق: منطقة استحقاق بلدي منزوع الصبغة التنافسية تريد حركة النهضة توظيفه لاكتساح المشهد، ومنطقة مسار سياسي قد تعتريه انتكاسة لو فكر أحد أطرافه الفاعلة في الانسحاب من مسار قرطاج 2، ومنطقة تصادم حكومي نقابي، مشدودة الى فواعل من وراء الستار تريد ضرب الاتحاد للاستفراد بكل البلاد...
ولا نعتقد أنه من "المفاخر" أن تنخرط حكومة في مخطط حزب، ثم تحاول إقناع الناس أنها تدافع عن الصالح العام وبالمناسبة، مناسبة حروب الوكالة، يحكى والعهدة على من روى أن نفس الحزب أي حركة النهضة أدار عن بعد حربا بالوكالة داخل الحزب الحاكم نداء تونس، عبر فواعل ـ معروفة جدا ـ استماتت في تفتيت حزبها، لجرّه خانعا ممتثلا الى تأبيد التوافق... وهي حرب يبدو أن طيفا من نداء تونس تنبه لها ـ ولو بعد فوات الأوان ـ ... وهذا حديث آخر.
 
خليل الرقيق