في ثمانينيات القرن الماضي ، و حتى بعدها ، كانت قاعات السينما تهتز بالتصفيق كلما تغلب بطل الفيلم الخير على اعدائه الأشرار ، او سخر منهم بحركة او خطاب هزلي . و كنا نضحك حتى دون ان نفهم معنى الخطاب او الكلمات . و كانت قاعة ستوديو 38 في شارع بورقيبة حيث مقر احد البنوك الان ، لا تهدأ و لا يتوقف جمهورها عن التصفيق و الصياح اعجابا و انبهارا بابطال أفلام الكاراتيه في ذلك الوقت .
كنا نحب السينما بشكل عفوي ، و نتفرج على الفيلم الواحد احيانا مرات عدة الى درجة اننا كنا نحفظ حتى حوار الشخصيات كما في فيلم " سينما باراديسو " ( Cinema Paradiso ) للمخرج الإيطالي الشهير قيسيبي تورناتوري . لم نكن نذهب الى السينما بهدف الثقافة او التثقف او التباهي و الظهور في مظهر المثقف .
تذكرت هذه المواقف او الصور النوستالجية و أنا اتابع تفاعل الجمهور مع عرض فيلم " فتوى " للمخرج محمود بن محمود الذي احتضنته قاعة الكوليزي منذ يومين . ففي كل مرة يسخر فيها بطل الفيلم " إبراهيم " ( احمد الحفيان ) من شخصية " السلفي " او " الخوانجي " ، او يفضح نفاق " الخوانجية " عموما و جرائمهم ، تهتز القاعة بالصفير و التصفيق في تماهي لافت مع بطل الفيلم ، و كأن التاريخ يعيد نفسه و لكن في صورة مختلفة ، اذ تحول البطل الخير لدى الجمهور من ذلك الصيني الأصفر او الأجنبي الغربي الذي لا تربطنا به سوى القيم الإنسانية المشتركة ، الى واحد منا يحمل في شخصيته الدرامية ، نفس دمنا و ثقافتنا و تطلعاتنا و مواقفنا . كما تحول الأشرار من أولئك الغرباء الافتراضيين الى أناس يعيشون بيننا ، و ربما تربطنا بهم علاقة دموية ، و لكنهم لا يشتركون معنا في شيء باستثاء الجنسية التونسية .
اما تفاعل الجمهور فقد ظل هو ذاته و ربما تضاعف اكثر يحمل في باطنه غضبا و حقدا شديدين على كل الأشرار أينما كانوا ، و خصوصا اذا كانوا بيننا و يهددون حياتنا .
و ليس غريبا ان يتفاعل كل الجمهور الذي امتلأت به قاعة الكوليزي خلال العرض ، او لنقل اغلبه ، مع فيلم " فتوى " ، و يتماهى مع بطل الفيلم المناهض ل " السلفيين " و " الخوانجية " ، فهو يحمل تقريبا نفس آراء و مواقف هذا البطل الذي جاء ليخلصه او ربما يثأر له من هؤلاء الأشرار المخربين الذين نغصوا حياته و لا زالو يهددونها .
لم يكن فيلم " فتوى " لمحمود بن محمود بالنسبة للجمهور مجرد فيلم عادي بل كان عبارة عن حصة علاجية او ما يعرف بالتطهير النفسي ( Katharsis ) عند أرسطو ، بمعنى التطهير والتنقية أو التنظيف ، وهي احد ادوار الفن الى جانب المتعة .
لقد نجح فيلم " فتوى " في التعبير عن مشاعر و مواقف الجمهور الذي حضر العرض و الا لماذا كل هذا التفاعل الذي أظهره و عبر عنه بكل صراحة و جرأة دون ان يخشى ما قد يترتب عن ذلك ، خصوصا و ان دماء الإرهابية التي فجرت نفسها منذ ايّام في شارع بورقيبة غير بعيد عن مكان عرض الفيلم ، لم تجف بعد ، و كأن الجمهور بتفاعله هذا يود توجيه رسالة تحدي ، لا الى الإرهابيين فحسب ، و إنما لكل الظلاميين و " الخوانجية " على حد تعبير بطل الفيلم .
اكد جمهور فيلم " فتوى " و جمهور السينما عموما ، على الأقل في هذه الدورة من ايّام قرطاج السينمائية انه محب للحياة و لا يخشى الإرهاب . و كان تفاعله مع الفيلم في تلك الليلة او العشية من فاتحة الأسبوع بمثابة الإعلان عن سقوط " الخوانجية " الذين تخلفوا بالمناسبة عن حضور عرض الفيلم ربما تفاديا لما قد يحدث من استفزازات ضدهم .
الم يقل جون لوك غودار منذ نصف قرن " من يحب الحياة يذهب الى السينما ؟ "
محسن عبدالرحمان