ثقافة و فن

صالح الثابت الفنان الحرفي : صاحب اللمسات السحرية واليدين الخالقتين

على شواطئ قرية بوغرارة البية، وبالتحديد تحت النخيل، أين تسطع أشعة شمس الخريف المعتدلة على مياه البحر، لتنعكس من بعد ذلك على الشاطئ والنخيل ثم الجبل . فتتبدل الصورة من مشهد طبيعي إلى أخر فني عتيق، وهو المشهد الذي يحرك مشاعر الفنان صالح الثابت، صاحب اللمسات السحرية واليدين الخالقتين ​لتنطلق بذلك علمية صقل تحفة فنية جديدة تختزل المشاعر والأفكار معا، أو ربما تختزل تاريخا وهوية وثقافة في حقبة أو أرض ما.

باعتبار اننا نسعى دوما إلى الكشف عن التفاصيل الخفية والمهمة التي تلهم الناس، التقى فريق أرابسك قد تنقل خلال بداية هذا الأسبوع إلى إحدى القرى الجميلة بالجنوب التونسي، بوغرارة، البلدية الجميلة التي تقع في ولاية مدنين. وذلك قصد لقاء الفنان التونسي والمبدع الذي ظل خفي الهوية، بعيدا عن شاشات التلفزيون وميكروهات الإذاعات، الحرفي المتميز صالح الثابت، نعم أنه ظل يمارس فنه الخاص بعيدا عن كل الضوضاء. ليبدع بذلك في فن الحرف بكل المقاييس.

منتجا مجموعة من التحف الفريدة شكلا ومضمونا، والتي تعكس العديد من القصص والهويات والثقافات، تشكلها مواد خامة من رحم الطبيعة.

كان اللقاء بالفنان صالح الثابت لقاءا مشحونا بالطرافة والتميز، فهو الرجل الذي تسمع عنه الكثير من الروايات لكن اذا ما شرعت في البحث فانك لن تجد عنه ولو مرجعا واحدا. يعيش الفنان في قرية بوغرارة رفقة زوجته، في منزل شيده على طريقته الخاصة. يمارس هواية النحت والصقل والابتكار، من خلال استغلال الحطب والطين والخشب والبلورـ بل انه في اغلب الاحيان يطوع أي مادة كانت لصناعة انموذج فني نادر.

المحاكاة ومعجزة السفن اليمنية..

في رحلتنا بمنزل العم صالح، وجدنا أن القدرة على الابتكار عنده أمر طبيعي، بل إن تلك القدرة تبدو اعجازية بأتم معنى الكلمة، حيث ان العم صالح له قدرة غريبة في محاكاة أي تحفة او جسم تراه عيناه على أرض الواقع في اي مكان كانت او اي زمان. بل انه في بعض الاحيان يستقى الافكار والصور من شاشات التلفزيون والمجلات، وهكذا كانت قصته مع ابتكار لنماذج من السفن اليمنية. فرحلاته إلى جزيرة جربة المكررة مكنته من استنباط نموذج مصغر يكاد يكون دقيقا للسفن العمانية، وهي نفسها السفن الضخمة التي تحوم في بحار جربة وسواحل جرجيس، نعم لقد تمكن العم صالح من اعادة صناعتها دونما خضوع إلى تكوين في مجال صناعة السفن والهندسة.

يقول العم صالح " لم أخضع لأي نوع من أنواع التكوين في هذا المجال، كل ما في الامر هو أنني أرى العالم بصورة مغايرة لما يراه معظم الناس واعمل جاهدا على استنباط الجمال من القبح حتى أخرج برؤية فريدة تغير مواقف الناس وتقنعهم بأن السر يكمن في أمرين مهمين أول هو الحب وثاني هو الفن وحبك له '.

ولم يكن العم صالح ينتج السفن فحسب، بل إن أعماله انتقلت إلى محاكاة كل الموجودات بما في ذلك أشهر المساجد في العالم والمنازل والحيوانات والشعارات وحتى الآلات الموسيقية. 

كما أنه يصقل ،يضا صناديق توضع داخلها الاشياء بطريقة نادرة، وفي هذا الغرض يشير العم صالح إلى أن هذا الصقل النادر يقوم بالاساس على استغلال الحجارة والصدف والتربة والخشب البالي وتحويلها إلى تحف فنية تستلهم العقول و تستقطبها.

العم صالح فن لوجه الفن

لازال العم صالح يقف على الشاطئ، يبحث عما يكفي من غصان النخيل البالية، وعن زجاجات النبيذ الفارغة او الصدف وغيره من الاشياء التي لا يمكن ان توظف لاي غرض او غاية، ليختار بذلك صندوق كنزه الجديد الذيسيحفظ اعداد من الاكواب والتحف الفريدة من نوعه. وليس الغاية على حد تعبيره هو من صقل هذه التحف هو بيعها، وإنما تجسيد لمجموعة من التصورات الفنية الراقية، او بالاحرى لخياله الواسع. 

يشير الفنان القدير " ليست الغاية من وجودي هنا هي صياغة واتقان صناعة قطع اتوجه بها من بعد ذلك للبيع، ان الغاية بالأساس هي ابتكار الجمال من السوء… في هذا العالم لا توجد ابدا قمامة، ربما القمامة هي الأفكار التي تسكننا والتي تدفعنا إلى رمي الأشياء في هذه الطبيعة… وجودي هنا يعني بالأساس تخليص الطبيعة من وقاحة الإنسان  "

هكذا كان مخيال هذا العالم، راقيا زاخرا بالأخلاق. فبالرغم من كونه عصاميا لم يطلع يوما على اي مقاربة في مجال الفن أو الفلسفة، إلا أنه يحمل في مخياله فلسفة خاصة به. سيكون من المهم جدا الاطلاع عليها ودراستها وفهمها وتحليلها، فهؤلاء الفلاسفة الذين ابتكروا أفكارا خاصة بهم يصعب جدا العثور عليهم ولذلك هو هنا لا يوظف الفن لتحقيق ربح مادي أو تجاري، وإنما يوظفه لوجه الفن.

الفنان صالح زمن اللافن والاهتمام

يشير الفنان صالح اثناء زيارتنا له، إلى العديد من الإشكاليات الكبيرة التي تجابهه في حياته، حيث انه يمارس هذه الحرفة خلال أكثر من عشرين عاما، وكان قد نظم معارضا لقطعه الخاصة في عديد المناطق بالبلاد، الا ان السلط لم تنتبه او تهتم بما كان ينتجه في حياته وما أراد أن ينتجه لصالح المنطقة. يقول " كنت قد قدمت نفسي خلال أكثر من مرة كمتطوع بالمنطقة لبناء أشكال معمارية جميلة وضخمة في مقرات الإدارات وفي المنعطفات والزوايا، نعم لو ساندني الجميع سواء من السلط الرسمية أو السلط الخاصة لكنت قد حولت جل هذه القرية إلى قطعة فنية نادرة يتوجه لنا الناس من جميع أنحاء العالم، لكن للأسف ليس ثمة أي شكل من أشكال الدعم ".

ويحكي الفنان أيضا قصته ورحلته في البحث عن شاب يعلمه هذا الفن الرائع ليصير خليفته من بعد ذلك، لكن رحلة البحث هذه لا تكاد تنتهي في الوقت الذي لا ينتبه فيه جل الناس إلى أعماله الفنية الراقية التي يختزل في كل منها فكرة وسائل ومعان، حيث أن الشباب يعتبرون هذه الحرفة باتت تقليدية جدا ولن يضيف تعلمها شيئا في حياتهم. وبذلك كان ولا زال حلم الفنان صالح هو إنشاء ورشته الخاصة التي يمكن أن تتحول إلى معلم ابتكار، إلا أنه لا يجد المستجيب من السلطات الذي يحفزه مادة ومعنى على ذلك.

هكذا كانت قصة الفليسوف الفنان، عصامي التكوين في شواطئ قرية بوغرارة وفي أريافها، ينتقي ما يكفي من المواد والموضوعات ليصنع منها من بعد ذلك معجزات نادرة. تحمل في طياتها الكثير من المعاني والأفكار، وخاصة وبالاساس استيتيقا عالية تحتاج إلى الدرس والشرح باعتبارها كانت فطرية.

 

 

اسكندر نوار