أوقدت أوبرا "كارمن" شرارة العاطفة والصراعات الإنسانية بأداء استثنائي أمتع الحضور في ليلة مقمرة ساحرة اكتمل بدرها، فتعطّرت بالفن والموسيقى الأوركسترالية من خلال عرض الأوبرا الشهيرة "كارمن" (بالتونسي) ضمن فعاليات الدورة 58 لمهرجان قرطاج الدولي، فعبقتها بألحان "جورج بيزيه" التي تأسر القلوب وتثير المشاعر.
هذا العرض الضخم أوبرا "كارمن"، أعاد مسرح أوبرا تونس إنتاجه في نسخة تونسية، وشارك في تأثيثه 140 عنصرا بين عازفين وراقصين ومغنين، يمثلهم الأركستر السمفوني التونسي بقيادة المايسترو فادي بن عثمان وقطب الرقص بمسرح الأوبرا تحت إدارة سهام بلخوجة وكورال أوبرا تونس بقيادة إلياس البلايقي، بينما تولّى مهمة الإخراج وتصميم اللوحات الراقصة الكوريغرافي سفيان أبو لقرع.
بدأت الأصوات القوية للمغنين تصدح بنغماتها العميقة والمؤثرة، مرفقة بألحان موسيقية تخترق القلب والعقل في آن واحد. لقد كانت مؤلفات "جورج بيزيه" الإبداعية تعزف على أوتار الشغف مستعرضة تناقضات الحب والحرية بأسلوب مبهر، لكن بأمهر أنامل العازفين في الأوركستر السمفوني التونسي الذي أثبت مجدداً تميزه وإبداعه، بتقديم نسخة متجدّدة من أوبرا "كارمن"، فأحيى هذا العمل الكلاسيكي بأسلوبه التونسي الفريد وبتأليف موسيقي يعكس الهوية الوطنية والإبداع الفني.
ولم يكن العرض مجرد أداء موسيقي فحسب، بل كان رحلة عاطفية غنية بالأحداث، مزجت بين الدراما والحب والتضحية. وتميز بأداء مذهل للميزو سوبرانو مرام بوحبل التي جسدت دور "كارمن" بروعة وإتقان. واستطاعت أن تنقل للجمهور مزيجًا من الشغف والقوة التي تتمتع بهما الشخصية، فجذبت بكل إثارتها وجرأتها القلوب وأشعلت شغاف الحضور بمواجهاتها العاطفية العميقة وروحها الحرة التي تحاكي قوانين المجتمع وتحدد الحب بمفاهيمه المتناقضة.
كما تألق التينور حسان الدوس الذي أدى دور "دون خوسيه"، والذي نقل بإحساسه العميق معاناة العاشق الممزق بين واجبه العسكري وحبه وإخلاصه لكارمن. وتألقت أيضا بقية الأصوات الأوبرالية بأدائها المثالي على خشبة المسرح، حيث جسد التينور هيثم الحضيري دور "اسكاميلو". ولعب بقية أدوار هذا العرض الأوبرالي أمينة بقلوطي ونسرين مهبولي ومحمد يحيى الجزيري ووجد عكروت وزينب الشريف ومحمد علي الزاوش وضياء الرايس وهيثم القديري وإشراق مطار.
وأحكم مخرج هذا العمل توظيف اللوحات الكوريغرافية الراقصة في جعل "كارمن" تجربة مسرحية غنية وممتعة، تجمع بين الجمال البصري والتعبير العاطفي العميق، مما عزّز الرواية الأصلية ودفع بسيرورة الأحداث وأسهم في فهم الجمهور للشخصيات والصراع القائم بينها. وتميّزت اللوحات الراقصة بتناغم حركاتها وتناسقها، فعكست الروح الجماعية وشدّت انتباه الجمهور على مدى ساعتين ونصف من الزمن دون انقطاع. كما اكتملت العناصر الفرجوية البصرية بالأزياء المسرحية، وأثرت البعد الحكائي والتخييلي للقصة.
وأثث هذه اللوحات الكوريغرافية الراقصة كل من هدى الرياحي وأميمة مناعي ووائل مرغني وعبد المنعم خميس وحازم الشابي وهشام شبيل وسيرين كلاعي ورنيم كافي وحسام الدين عاشوري وقيس حرباوي وعمر عباس وبية بوزقرو وصبرينا زاهري وفاطمة بلطي وعبدوالقادر دريهلي وحمدي طرابلسي وخلود بن عبد الله وإلياس التريكي.
لم يكن عرض "كارمن" على ركح المسرح الروماني بقرطاج مجرد أداء أوبرالي فحسب، بل كان تجربة حسية وروحية أثّرت في كل من حضرها، فكان الصمت والانتباه هو السمة الطاغية على الجمهور الذي تصاعدت تصفيقاته إعجابا بعد كل مشهد، فخلّد هذا العرض اسمه على لائحة العروض "الذهبية" لهذا المهرجان العريق الذي يحتفي هذا العام بذكرى مرور 60 سنة على تأسيسه (1964 - 2024).
وللإشارة فإن "كارمن" هي أوبرا شهيرة من تأليف المؤلف الفرنسي "جورج بيزيه". وتعتبر واحدة من أكثر الأعمال الأوبرالية شهرة وأداءً في العالم. وتدور أحداثها حول "كارمن" الفتاة الغجرية الجذابة والعنيدة، و"خوزيه" الجندي الذي يقع في حبها ويتحول بسببها إلى خارج عن القانون. وعُرضت لأول مرة في أوبرا كوميك في باريس في 3 مارس سنة 1875. وعلى الرغم من الاستقبال الفاتر الأولي لهذا العمل، إلا أن "كارمن" أصبحت فيما بعد واحدة من أنجح الأعمال الأوبرالية.