كما تتملّص روح الصوفي من تجسّدها المُرهِق، يتملّص ذهن المشاهد لمسرحيّة "رقصة سما" من جغرافيّة كرسي المشاهدة ليتحرّر من وحدة زاوية الفرجة إلى حرية الانتقال بذهنه من واجهة الركح الى ما خلف الكاميرا الى ما أمامها، من عمق الشاشة الدّوارة الى ما خلفها، من الركح الدوّار الى الركح الراسخ، من كواليس التصوير إلى عمق الصورة، من غلاف الكتاب الى الغوص في أغوار صفحاته.
لرقصة سما خرافة إطار و أخرى مُضمّنة من ناحية قصة هالة التي مثلت محور العائلة هي الام و البنت في آن، هي الزوجة الكارهة في مرحلة ثم العاشقة لمؤلف الكتاب الذي تحملها صفحاته من ناحية اخرى نحو عوالم عشق شمس الدين التبريزي و رحلته نحو جلال الدين الرومي.
ان الانتقال بين الآن (واقع هالة) و القرن 13 بمجرّد تصفّح الشخصيّة لكتابها كان ليعتبر مبرّرا ركيكا لولا ما يصحبه من ايقاع الصور الخاطفة و كذلك تكفّل السينوغرافيا بوظيفة دراماتورجيّة مبتكرة ملغومة متفجّرة، لتنقذنا ثرثرة الصورة و ايقاعها المجنون من رتابة المنطوق خاصة اذا تجرّأ على وصف لحظات التأمّل.
الأمر الذي تجنّبه دراماتورج و سينوغراف العمل الطاهر عيسى الذي استدرجنا باستدعاء جيل مخضرم من الممثلين و خدعنا باستدعاء الأدب كفنّ ليقدّم أمام العلن سينيمائيّته قُربانا على أنصاب الرّكح.
يتطهّر المخرج و يحقّق نقاوة روحه المسرحية و ارتقاءها على ركام جسده السينيمائي المكبوت المُثقل بالصّور. وقد تمادى الطاهر عيسى بن العربي في كاتارسيسيّته الى حد التهكّم على كواليس الفعل السينيمائي من خلال الوثب المتوتّر بين لحظات تصوير المشاهد و لحظات انقطاعها، كل ذلك بأدوات سينيمائيّة كالكلاكيت و الكاميرا و حامل الميكروفون.
ان مشاهدة رقصة سما من زواياها المتقلّبة للوهلة الأولى قد لا تكفي للانتقال من الإنطباعيّة الى كشف الحيل الاخراجية التي تفرض الاعتراف بسحر وجمالية الرحلة رغم تجاوز مدة عرضها للساعتين. لكن من الراسخ أن العمل استنطق أدواته متوسّلا أساليب جمالية مُغامرة من شأنها أن تكسر " السلفيّة الجمالية" السائدة على حد عبارة الفنان أنور الشعافي.
"رقصة سما" عمل لا تشعر بتشظّي أسلوبه رغم التباين في طابع الأزياء و لهجتي طرفي الحقبتين لتجمعنا نقاوة العشق و رغبة الانعتاق و لذة الم الفراق المحتوم كلحظات انسانية بليغة الإحساس عميقة المعنى، فهذا العمل مغامرة جمالية يشتاق المشاهد أن يرصدها من أي موقف ممكن، حتى من خلال عدسة الكاميرا التي يحملها الممثل منير الخزري في زاوية الركح.
لن تختلف الصورة و لن تخون الإنارة، "فالكاشفات ليست وسيلة لإضاءة الممثل بقدر ما كانت وسيلة لصنع الحدث" كما وصفها الفنان خالد بوزيد.
هي صور أقرب لعيون الموناليزا الخادعة و أكثر حيرة من لوحة قاعة الانتظار في مفتتح رواية " الشحاذ " لنجيب محفوظ، تلك اللوحة التي رغم أنه لا قيمة لإطارها المزخرف لكن الأفق في داخلها ينطبق من أي موقف ترصده. منها انطلقت فكرة الانتعتاق من عيادة الطبيب الى رحلة تصوّف زادُها التأمّل.