المسرحية العراقية "بيت أبو عبد الله" : حين ينقل الجسد عناء الروح وجرح الوطن
2024.11.27 20:12
في إطار فعاليات الدورة الخامسة والعشرين لأيام قرطاج المسرحية احتضنت قاعة الريو يوم الثلاثاء 26 نوفمبر العرض العراقي "بيت أبو عبد الله" المبرمج ضمن المسابقة الرسميّة، إنتاج دائرة السينما والمسرح/الفرقة الوطنية للتمثيل نص وإخراج أنس عبد الصمد أداء محمد عمر وثريّا بوغانمي وأنس عبد الصمد وماجد درندش.
على المسرح طاولة وثلاثة صحون، كتب مكدّسة تحت الطاولة وأخرى مبعثرة في الزوايا، آلة غسيل ومرحاض في آخر الركن، جدران بطلاء أسود ورجل مقيّد الحركة في إطار ـ يبدو كأنه صورة جامدة على حائط باهت ـ على المسرح امرأة تتحرّك بتوتّر في الفضاء بين الضوء والعتمة... يجتمع الرجل والمرأة على طاولة الطعام دون تواصل يبدو أنّ لكلّ منهما شواغله ومعاناته، يدخل رجل ويتجّه إلى المرحاض يقضي حاجته مطالعا الجريدة ويخرج ليدخل آخر لنفس الغرض ولا يعيرهما الزوج والزوجة اهتماما... أصبح البيت مستباحا.
حركة محمومة لا تهدأ يشوبها العنف والتوتّر في أقصى حالاته، في الخارج أصوات مبهمة تتضح تدريجيّا لتستحيل طلقات من الرصاص والغوغاء وتتحرّك الجدران السوداء لتسجن الشخصيات التي تحاول عبثا النجاة فتجد نفسها مسحوقة ومختنقة بها. تتلاشى جدران المنزل ليتجلّى الوطن أمامنا في حالة من الفوضى القصوى، صار البيت صورة مصغّرة عن الوطن بكلّ متغيّراته وأزماته وعواصفه الإنسانيّة والاجتماعية والسياسيّة في توظيف مكثّف للرمزيّة اختزلت حياة أسرة أبو عبد الله، لتنقل قضايا جوهريّة وأسئلة وجوديّة حول حريّة الإنسان وحرمة الجسد.
كلّ جزئيات العرض تبوح وتفضح بطش السلطة بحركات ـ تبدو كأنها عشوائية ـ تتخبّط في فضاء مجهول تحطّم الصحون وتقلب الطاولة وتمزّق الكتب بما تحويه من أفكار وأيديولوجيات ويتحوّل فضاء الركح إلى فوضى عارمة، تصرخ الشخصيات طيلة زمن العرض بصوت يتجسّد أنينا وحشرجة، فنفهم أن كلّ الصرخات ما هي في الواقع سوى بديل على كلام لم يٌقل لعجز في التعبير من هول ما يحدث أو ربّما لأن الكلام استحال إلى تهمة تٌنصب لها المحاكم وتُعرّض صاحبها للعقوبة.
تنتفض الأجساد المنهكة البائسة وتقاوم لتخرج من تجاويف الجدار تحاول الانعتاق لتعاود الإحساس بقيمة الحياة وفي أوج المقاومة تتحول خلفيّة الركح إلى شاشة كبيرة تستعرض زحفا هائلا للجرذان... على هذه الشخصيّات التي كابدت شتّى أشكال التعذيب وقاومت لتستمرّ وتحيا رغم انكسار الروح وتخلّصت من سجنها ـ تخليص الجسد ـ أن تعاود النضال لتقاوم زحف الجرذان التي سكنت البيت العراقي/الوطن.
"بيت أبو عبد الله" عرض باح بكلّ أسراره ورموزه رغم خلوّه من المنطوق (النص) عبر تلك اللغة الكونيّة التي قالها الجسد كركيزة أساسيّة برؤية إخراجية اعتمدت "الميتا مسرح" وهو المسرح الذي يعتمد على نفسه ويعرض نفسه كبناء جديد لوضع المؤلّف داخل المتخيّل المسرحي، بمعنى أنّه لا يتوارى وراء شخصيّاته كما هوّ الشأن لدى المؤلّف الكلاسيكي وإنما يخرج إلى واجهة الأحداث ويعبّر عن أرائه ومواقفه بشكل مباشر في عمل يستعين خلاله بتقنيّات مختلفة.
العمل جاء بإيقاع تصاعدي جسّد معاناة الإنسان الجسديّة والمعنويّة كما جسّد إرهاصات وطن شهد الكثير من الأزمات التي لا يزال يكابد مخلّفاتها، أزمات كانت دكتاتوريّة السلطة شرارتها الأولى، كلّ هذا وغيره عبّر عنه الممثلون بلغة واحدة (الجسد) متناغمة ومتجانسة ومدروسة بدقة متناهية فأبلغت مقاصدها ورسالتها بعناء/تعب الجسد إلى جانب سينوغرافيا محكمة خدمت مقاصد العرض في سياقاته الدراميّة المختلفة.