في فيلمه الجديد "برج الرومي"، يعيد المخرج التونسي المنصف ذويب إحياء ذاكرة واحدة من أكثر رموز القمع شهرة في تاريخ تونس الحديث: السجن المدني ببرج الرومي في بنزرت. عرض هذا الفيلم ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة 35 لأيام قرطاج السينمائية (14 - 21 ديسمبر 2024)، ويستند إلى كتاب "نظرات أمي" للكاتب عز الدين الحزقي، الذي يروي فيه مذكراته السجنية من 14 نوفمبر 1973 إلى مايو 1979، ليقدم صورة سينمائية تعكس سنوات القمع التي عاشها اليسار التونسي في ظل الاستبداد.
تم بناء السجن المدني ببرج الرومي خلال فترة الاستعمار الفرنسي، ليكون شاهداً على عقود من الانتهاكات لحقوق الإنسان. يفتح المنصف ذويب من خلال فيلمه نافذة سينمائية على هذا المكان الذي أصبح رمزاً لمعاناة السجناء السياسيين، ويعرض تفاصيل حياة السجناء في جدرانه المظلمة. يعيد الفيلم سرد أحداث السجن من منظور شخصي وإنساني عبر سردية الكاتب عز الدين الحزقي، الذي أمضى سنوات داخل السجن بسبب انتمائه اليساري.
يشارك في البطولة عدد من الممثلين مثل محمد شوقي بلخوجة، عزيز الجبالي، طلال أيوب، حسام الغريبي، جمال المداني، مروان العريان، إيهاب بويحيى، وعبد الحميد بوشناق.
وتتمثل جمالية الفيلم السينمائية في تقنياته الفنية، حيث يعتمد على ثنائية الضوء والعتمة التي تحمل دلالات رمزية عميقة. الظلام يعكس مأساة السجناء، بينما الضوء يبعث أملاً في التحرر ويجسد صراع الإنسان مع القمع. تعكس هذه الثنائية المتناقضة أيضاً أحد أشكال التعذيب النفسي الذي تعرض له السجناء، حيث تتحول الممرات والنوافذ إلى رموز للحصار والحرية المفقودة. فضل المخرج استخدام اللقطات القريبة بدلاً من المشاهد العامة ليمنح الفيلم إحساساً أكبر بالسجن وتأثيراته، حيث يضيق حدود المشهد لتجسيد طبيعة المكان وأثره على الإنسان.
وعلى الرغم من أن الفيلم يعالج معاناة سجناء الرأي، إلا أن المخرج تجنب تصوير العنف بشكل مباشر، مفضلاً التركيز على العنف الرمزي الذي يظهر في تفاصيل الحياة اليومية للسجناء، مثل القسوة في الظروف وتقييد الحريات. كما يبرز الفيلم صمود سجناء اليسار الذين تمكنوا من انتزاع حقوق بسيطة داخل السجن، مثل الحصول على الكتب وأدوات الطبخ، مما يعكس إيمانهم بضرورة الدفاع عن الحقوق وقوة الإرادة الإنسانية في مواجهة القمع.
ورغم الجرأة الفنية والموضوعية التي تميز بها "برج الرومي"، إلا أنه لم ينجح تماماً في استيفاء الأبعاد الرمزية للمكان كفضاء لانتهاك الكرامة البشرية. فقد بدا السرد السينمائي في بعض جوانبه كلاسيكياً، مع نقص في التجديد في معالجة الموضوع، مما قد يحد من تأثير الفيلم في رسم صورة متكاملة لمعاناة السجناء السياسيين.
مع ذلك، يبقى "برج الرومي" شهادة سينمائية عن مرحلة مظلمة في تاريخ تونس، ورسالة تذكير بأهمية الحرية وكرامة الإنسان. ويظل العمل إضافة نوعية إلى السينما التونسية، ودعوة للتأمل في ذاكرة الأمكنة التي حملت وجع الإنسان وآماله.
وات