ما يراه المهاجر حلما غير قابل للتحقيق يراه العلم مجرد ظاهرة قابلة للقياس. و ما يراه المهاجر أملا مشروعا توصّفه المنظومات القانونية في قوالب غير الشرعي كلّ يبحث عن حقه و لعب دوره بإتقان. و شتّان بين المنقذ لنفس بشرية و بين المنقذ لمنظومة سلّمها نفسه.
عند هذا المفترق التقت شخصيات مسرحية "في بطن الحوت" تأليف وإخراج مروة المناعي وإنتاج مشترك للمسرح الوطني التونسي والمسرح الوطني الكرواتي برييكا. وتمّ تقديم هذه المسرحية على ركح قاعة الفن بتونسفي ثلاث عروض متتالية أيام 24 و25 و26 جانفي الجاري.
واستلهمت مروى المناعي نص المسرحية من قصص قصيرة لأربع كاتباتهن "إيفا بابيتش" و"دوروتيا شوشاك". وضمّ العمل نخبة من الممثلين من تونس وكرواتيا هم سنية زرق عيونه ونادية بالحاج وثواب العيدودي وعلام بركات و"ماريو يوفيڤ" و" سيرينا فيرايولو" و"وإيدي تشيليتش". وساعد في الإخراج أنيس كمون ودراماتورجيا "مايا ليزاييتش". وتولّى "ألان ڤوكليتش" تصميم السينوغرافيا والإضاءة. وألّف الموسيقى رياض البدوي وصمّمت الأزياء "ساندرا ديكانيتش"، أما تصميم وإخراج الفيديو فحمل توقيع سهيل بن حميدة.
دلالات العنوان ورمزيته
يحمل عنوان المسرحية "في بطن الحوت" دلالات دينية وفلسفية، فهو يحيل المتفرج إلى استحضار قصة النبي يونس الذي وجد نفسه في ظلمات الحوت بعد هروبه من قومه من ناحية، ويقدم إطارا رمزيا لتجربة المهاجرين في المسرحية من ناحية أخرى. والحوت هنا يصبح كائنا رمزيا ومنظومة شاملة تبتلع الجميع سواء كانوا مهاجرين يبحثون عن الأمان أو مسؤولين تحكمهم القوانين البيروقراطية.
أما بطن الحوت، فهو يمثل الظلمات المزدوجة التي يعيشها الأفراد داخل المنظومات القمعية: الظلمة الأولى هي فقدان الهوية والكرامة الإنسانية، والثانية هي العجز عن الهروب من قيود الواقع. وفي هذا السياق، يتحول كل فرد، سواء كان مهاجرا غير نظامي أو أكاديميا أو مسؤولا، إلى جزء من نظام يلتهم الإنسانية ويجعل من الجميع ضحايا وفاعلين في الوقت ذاته.
أتت شخصيات العمل من ثلاث واجهات أولا صاحبة البحث الأكاديمي التي تناولت فيه التجاوزات داخل مراكز الايواء وهي صاحبة الخيط النّاظم للحكاية الإطار باعتبارها تنقل التجاوزات داخل مركز الإيواء B42 وهي تجاوزات مضت وجب دراستها و إن كانت غايتها الحصول على منحة دعم من خلال بحثها. ثم يأتي ثانيا شخصية المشرف على مركز الايواء و ليلى الفتاة التونسية التي تستجوب المهاجرين غير النظاميين: فالأول يبحث عن حل لترحيل كل المهاجرين لإغلاق المركز في غضون عشرة أيام و الثانية وسيلة لتبرير الترحيل من خلال إثبات جنسية كل مهاجر. وأما العنصر الثالث فيهمّ شخصية المهاجرين الثلاث وهم "علي" الشاب التونسي الذي هاجر عن طريق تركيا مدعيا أنه مهاجر سوري أملا في أن يتحصل على اللجوء و "مريم" الفتاة التي غادرت هربا قبل أن يتم كشف حملها خارج إطار الزواج، و "فودونوشا" الذي يرجح أن يكون من أذربيجان أو إحدى الدول المجاورة لها رغم الشكوك الحائمة حول جنسيته.
ورغم تنوع النصوص المرجعية للعمل وتنوع جنسيات الممثلين وكذلك تنوع لهجات الفاعلين (الشخصيات)، تمكنت صانعة العمل من تقديم توليفة متناسقة المعنى سلسة الفهم تسمح للمشاهد بمعاينة قتامة بطن الحوت وإمكانية الاستبصار في ثناياه من زوايا مختلفة. فعنوان العمل يحيلنا ضرورة للمكان الذي عاش فيه النبي يونس بعد أن خرج بسبب رفض قومه لدعوته. وتبدو شخصيات المسرحية مثقلة بالخطايا كخطايا العلم و براغماتيته حين تقتصر غاية الباحثة على نيل منحة بحث، وخطايا المسؤولين حين يعلو تطبيق القانون على معاني حقوق الانسان من خلال شخصية مدير مركز الإيواء الذي أهمل صحة اللاجئة الحامل أو شخصية ليلى التي كشفت أسرار أبناء بلدها اللاجئين لتختلط معاني الواجب بالخيانة.
وأخيرا خطايا المهاجرين الباحين بشتى الوسائل عن إنكار جنسياتهم ولهجاتهم ودياناتهم و كل موروثهم الحضاري إذ بدوا مستعدين لقبول أي اسم وأي صفة فقط كي لا يتم ترحيلهم إلى بلدانهم، الأمر الذي يفرض سؤالا جدليا على المشاهد هل هم طامعون في جنة عيش أم فارون من نار حارقة.
السينوغرافيا: فضاء يروي القصة بصريا
استخدمت مروة المناعي حواجز شفافة لفصل المساحات على الركح ومن خلالها يتشكل الفضاء حسب الوضعية من شاشة عرض البحث الأكاديمي اإلى مختلف فضاءات مركز الإيقاف كما تتشكل من بوابات الى جدران غرف ضيقة الى جدران فاصلة بين المودعين والمشرفين على المركز. ومن خلال هذه الحواجز عمدت المخرجة إلى تضييق الزوايا و إبراز الضغوطات التي يعيشها المهاجرون والمشرفون على مراكز الإيواء في الآن ذاته.
و من خلال تقنيات الإضاءة، تغيب الحواجز تماما لتَبرز خطوط حمراء متشابكة تنبع من كبّة خيط لا متناهية تشكل مثلثات متقاربة الأحجام تصل المولود بالموجود بضوابط الوجود ومنظوماته المحكمة، فكانت هذه الخطوط الحمراء منبهات للخطر الحتمي وتنبيهات المنع و الحظر في حين يحيلنا الإحمرار الى الخطوط الحمراء التي تحرق كل من يحاول تجاوزها وكأننا أمام أشعة ليزرية يصعب اختراقها.
و الملفت للانتباه هو اشتراك كل الفاعلين على الركح رغم اختلاف مآتيهم في نسج خطوط المنظومة المحكمة كي لا تسمح مروة المناعي لأحد بالتملص من المسؤولية فقوم النبي يونس مخطؤون لأنهم لم يتبعوا تعاليمه ويونس أخطأ حين سارع بالإبحار بعيدا عنهم
فالعمل لا يحاكم موقفا أو شخصية بذاتها وإنما سواء كانت محتجَزة أو مسؤولة في مركز احتجاز، فإن وطأة المنظومة التي تعتقل الوجود الانساني تنبع من كل الشخصيات خاصة النسويّة مثلما هو شأن شخصية الباحثة التي يتم
مقاطعتها باستمرار والتشكيك في جدوى طرحها و حرمانها من منحة البحث و فرض مساحة زمنية ضيقة لحديثها و مناقشة لهجتها قبل معانيها و مضامينها.
ومن ناحية أخرى شخصية ليلى التونسية التي يوظّفها مركز الاحتجاز لاستجواب المهاجرين وهي لا كفاءة مهنية لها غير معايشتها لتجربة الهجرة وفهمها العميق لغايات المهاجر لأنها في النهاية مرت بالتجربة، فليلى التي بدت متوترة مدخنة شرهة غير مقتنعة بحذاء العكب الأحمر المرتفع جالسة على كرسيها الأحمر تعلم جيدا أنها تحبط أحلام المهاجرين لتواصل في حلمها هي غير مهددة بالتهجير لأنها انخرطت في المنظومة القانونية لكن حلمها بدأ في الإحمرار كي يستحيل كابوسا مرهقا.
و في النهاية شخصية مريم هذه الفتاة الحامل التي حوّلت مرارتها الى مواقف طريفة و نكات مضحكة وهي تتهكم على مستجوبيها وتناضل لتمنح ما في بطنها فرصة للاعتراف و الحياة بعيدا عن المجتمع الذي أرهقها لتصطدم بواقع مغاير لحقوق الطفل والحامل التي سمعت عن شعاراتها و افتقدت معانيها داخل مركز الاحتجاز. أما الشخصيات الذكورية فكانت أكثر ميلانا للفرار من المسؤولية مهما اختلفت مستوياتها، فشخصية علي الذي ادعى أنه سوري الجنسية طمعا في اللجوء يجد نفسه متهما بالانتماء لجماعات إرهابية انتقلت به من تركيا إلى سوريا، ثم المشرف على المركز الذي يسعى جاهدا لترحيل كل المهاجرين كي يغلق المركز ويتملص من المسؤولية. وأخيرا "فودونوشا" الفار من هويته ومن منطق السؤال والجواب نحو عالم من التّأمل و الاندماج مع عناصر الطبيعة، فودونوشا الشخصية الأكثر غموضا ووضوحا في آن لم ينتحل صفة بقدر ما ألغى ما أريد له من صفات و أبعاد، وكأنه يعود للطبيعة و للكون كي يعيد بعثه من جديد خارج الضوابط المحكمة وقيود المنظومات.
مقاصد المسرحية ودلالاتها
تُبرز المسرحية التوتر الكامن بين الإنسانية والمؤسساتية، بين الفرد المناضل من أجل البقاء والمنظومة التي تسعى إلى الحفاظ على قواعدها. من خلال استلهام قصص قصيرة لكتاب من خلفيات ثقافية متعددة، تحاول مروة المناعي تفكيك معضلة الهجرة غير النظامية، لا بصفتها أزمة قانونية فحسب، بل كظاهرة إنسانية متعددة الأبعاد.
وتثير المسرحية قضايا متعددة أبرزها معاناة المهاجرين غير النظاميين وصراعهم من أجل الاعتراف بإنسانيتهم. وتنتقد بشدة التناقض بين القوانين الدولية لحقوق الإنسان والتطبيقات العملية لها والتي غالبا ما تُغفل الجانب الإنساني. كما تسلط الضوء على تأثير المنظومة القانونية على الأفراد سواء كانوا مهاجرين أو موظفين في تلك المنظومات وهو ما يخلق أزمة في الهوية والانتماء، حيث يضطر المهاجرون إلى إنكار جذورهم ليضمنوا فرصة للنجاة.