آراء

العنف في تونس : بين غياب الدولة وتطبيع الخطابات العدوانية

 منذ بداية عام 2025، بدأت ظاهرة العنف تتزايد بشكل ملحوظ في تونس. الجرائم تتكرر بشكل مقلق، ويبدو أن هذه الظاهرة أصبحت جزءًا من المشهد اليومي.

 ففي نهاية الأسبوع الماضي، شهدت تونس أربع جرائم قتل في ولايات مختلفة، بينما في الأسبوع الذي سبقه، راح ضحيتين نساء على يد أزواجهن. هذا التصاعد في العنف يُثير العديد من التساؤلات حول غياب استراتيجية واضحة من قبل الدولة لمكافحة هذه الظاهرة، ويجعلنا نطرح سؤالًا مهمًا: هل هناك حلول جذرية حقيقية لمعالجة هذا النزيف الاجتماعي؟
و وفقا لإحصائيات رسمية، شهدت تونس في السنوات الأخيرة ارتفاعًا في معدلات الجرائم، خاصة في ما يتعلق بالقتل والعنف الأسري. على سبيل المثال، في عام 2023 تم تسجيل أكثر من 350 حالة قتل، من بينها العديد من الحوادث التي تتعلق بالعنف الأسري. كما تشير الأرقام إلى تزايد الحالات التي تطرأ بشكل مفاجئ، مما يعكس غياب الاستقرار الاجتماعي والنفسي في المجتمع التونسي.
العنف لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة لأزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية عميقة. من المعروف أن الفرد لا يولد عنيفًا، بل يتشكل سلوكه بناءً على الظروف المحيطة به. ففي وقت تعاني فيه تونس من نسبة بطالة مرتفعة (تقدر بحوالي 15% وفقًا لأحدث الإحصائيات)، وتضخم اقتصادي وفقر مدقع في العديد من المناطق الداخلية، يزداد الإحساس بالإحباط واليأس بين الفئات الشابة. هذا، بالإضافة إلى تفشي التهميش الاجتماعي، يؤدي إلى تزايد العدوانية بين الأفراد، حيث يعتبر البعض أن العنف هو السبيل الوحيد للتعبير عن غضبهم أو لتحصيل حقوقهم.
في ظل هذه الظروف، تظل الدولة غائبة عن تقديم حلول شاملة لمشكلة العنف. رغم بعض التصريحات الرسمية حول ضرورة الحد من العنف وتعزيز دور المؤسسات الأمنية، إلا أن غياب استراتيجيات ملموسة ورؤية شاملة لحل هذه الظاهرة يبقى سمة بارزة في التعاطي مع الأزمة.
هل تقوم الدولة بأي تحركات جادة؟
الجواب واضح في الواقع، حيث أن سياسات التنمية في المناطق الداخلية، والتي تُعد من بين أكثر المناطق تهميشًا، تبقى محدودة وغير فعالة. كما أن نشر الوعي حول خطورة العنف والتربية على ثقافة السلم لم يأخذ بعد الزخم الكافي في المناهج التعليمية، ولا في الحملات الإعلامية.
هل يتم التعامل مع العنف على أنه قضية اجتماعية شاملة، أم يُختصر في إطار الظواهر الجنائية؟
على الرغم من تصاعد العنف، لا تزال المعالجة الأمنية هي الأداة الرئيسية التي تعتمدها الدولة لمواجهة هذه الظاهرة. لكن، العنف لا يُحل بالعنف، والاعتماد على القمع لن يساهم في معالجة الأسباب العميقة لهذه الظاهرة. إن ممارسات الأجهزة الأمنية، أحيانًا، تتعدى حدودها لتصبح جزءًا من المشكلة.
ففي العديد من الحالات، يتعرض المواطنون إلى عنف مادي ولفظي من قبل قوات الأمن، سواء في الاحتجاجات أو أثناء التعامل اليومي معهم. هذا العنف الرسمي يتنافى مع حقوق الإنسان، ويزيد من الاحتقان الاجتماعي، ويُسهم في خلق بيئة مشحونة بالتوتر والخوف.
التطبيع مع العنف في الإعلام:
ليس فقط في الشارع، بل حتى في الإعلام، نجد تطبيعًا مع العنف أصبح أكثر وضوحًا. على سبيل المثال، قبل شهر رمضان، تلفظ محلل سياسي في قناة خاصة بكلمات بذيئة على الهواء ضد زميلته، ولم تتخذ القناة أي إجراء ضده. هذا التصرف لم يُعاقب عليه و عاد للظهور بشكل عادي.
إن التطبيع مع العنف في الإعلام، سواء كان لفظيًا أو جسديًا، يخلق بيئة ثقافية تُشجع على القبول بالعنف كأداة للتواصل والتفاعل، مما يُزيد من انتشاره في المجتمع.
العنف في تونس ليس مقتصرًا على الشارع أو الجرائم البشعة فقط. فقد أصبح العنف مستشريًا في جميع المجالات، حتى في المدارس. فالعنف المدرسي، الذي بدأ في الظهور بشكل غير مسبوق، قد يصل أحيانًا إلى جرائم قتل بين التلاميذ، في حين يعاني المعلمون أنفسهم من تزايد حالات الاعتداءات اللفظية والجسدية من قبل الطلاب.
من جهة أخرى، العنف اللفظي في وسائل التواصل الاجتماعي صار من الظواهر اليومية، إذ يتم توظيفه أحيانًا لغايات سياسية، حيث يلجأ البعض إلى الهجوم الشرس على الأشخاص الذين يختلفون معهم في الرأي، مستخدمين لغة مسيئة وتهديدات. هذا النوع من العنف يُساهم في تكريس ثقافة الكراهية والتفرقة في المجتمع.
الموروث المجتمعي والعنف ضد المرأة:
أيضًا، لا يمكننا تجاهل أن الموروث المجتمعي في تونس الذي يحمل تسامحًا مع العنف ضد المرأة. ورغم التقدم الكبير في التشريعات التي تكفل حقوق النساء، إلا أن العنف الأسري ضد النساء ما زال يُعتبر في بعض الحالات جزءًا من الموروث الثقافي. وهذا ما يتجلى في حالات العنف الزوجي التي تأخذ طابعًا يوميًا في بعض الأسر، حيث يُعتبر ضرب الزوجة أو تهديدها أمرًا مقبولًا من بعض الأفراد. هذا التسامح يُترجم في ضعف القوانين والتطبيق غير الكافي لها.
من المهم التأكيد أن المجتمع التونسي ليس عنيفًا بطبعه. تونس، على مر تاريخها، كانت وما زالت مجتمعًا يعكس قيم التعاون والتآزر، خاصة في الأزمات الكبرى. الفرد لا يولد عنيفًا، بل تتشكل هذه السلوكيات بفعل الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وغياب أي أفق للتغيير.
المجتمع التونسي يعاني من تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدهور الأوضاع المعيشية، وغياب العدالة الاجتماعية، بينما لا تقدم الدولة استجابة شاملة للمشكلة، بل تقتصر تدخلاتها على الحلول الأمنية التي تساهم بدورها في تفاقم الاحتقان الشعبي.
ما نراه اليوم في تونس ليس سوى نتيجة مباشرة لسلسلة من الأزمات المتشابكة. إذا كانت الدولة جادة في معالجة ظاهرة العنف، فإن الحلول يجب أن تكون جذرية وليست سطحية. يجب أن تبدأ من تحسين الأوضاع الاقتصادية في المناطق الداخلية، وتوفير فرص العمل، وصولاً إلى تغيير في ثقافة التعامل مع الأزمات، من خلال نشر الوعي وتوفير التعليم المناسب الذي يزرع قيم السلم والتسامح.
 
 
 
أحلام الشرميطي