لحفلة التخرّج في بلاد «الفرنجة» تقاليد وسنن ورمزيّة. فهي طقس عبور بامتياز إذ يودّع التلاميذ مرحلة من مسارهم التعليميّ، ويستعدّون لاستقبال مرحلة أخرى. ويولي الإطار التربوي والأسر هذا الحدث الأهميّة التي يستحقّها فيساهمون كلّ من موقعه في
جعل حفلة التخرّج ليلة «من ألف ليلة وليلة»، وتحويلها إلى ذكرى جميلة،.
ونظرا إلى أنّنا نعيش في زمن العولمة وثقافة الصورة فقد تأثّر أبناؤنا بالمسلسلات والأفلام التي تتضمّن تفاصيل حول إعداد حفلات التخرّج، والدخلات، وما يحدث فيها من مغامرات، ومواقف طريفة، وهزلية،...وحلموا ببناء علاقات مختلفة مع أساتذتهم، وبتحويل الفضاء التربوي إلى فضاء ‹فرجوي› تسود فيه مشاعر الفرح والانتشاء.
حفلة التخرّج أضحت في بلادنا «الخرجة»، أي أنّها «تتونست» وصارت مسبوقة بالدخلة. ولئن تزامن موعد تنظيم الدخلة مع موعد اجتياز تلاميذ السنة الرابعة ثانوي امتحان الرياضة فإنّ كلّ مجموعة قد اختارت لنفسها موضوعا، وشعارات، وأشكال تعبير محدّدة تعكس مشاغلها وآمالها ومواقفها ورؤيتها للحياة ، وأخضعت هذا الاختيار للنقاش ونالت الإجماع بأغلبيّة مريحة.
وتختلف أشكال الاحتفال بالدخلة من معهد إلى آخر وفق القدرة على الابتكار، والإمكانيات المادية وغيرها كما أنّها تنهل من معين الأجواء في الملاعب،وسلوك ultras ،وتتأثّر بما يجري في ثقافات أخرى، وتتأقلم في بعض الحالات، مع الثقافة المحليّة ولذلك وجدنا موضوع دخلة المعهد النموذجي بقفصة الاعتراف بجميل الأساتذة إذ ردّد التلاميذ أغنية Adieu Monsieur le Professeur وقبّلوا من «علّمهم حرفا»، وألفينا موضوع دخلة تلاميذ معهد قابس مساندة القضية الفلسطينية، فكان الشعار «لا ولن ننسى القضيّة» وانشغل معهد الوردانين بقضية الإرهاب فآثر التلاميذ توجيه رسالة إلى الإرهابيين «إرهابكم لا يرعب جنودنا».
وفي مقابل هذه النماذج الإيجابية المعبّرة عن مشاعر الوطنيّة وإدراك للرهانات ظهرت حالات انفلات فرفع شعار يمجّد هتلر،وأخر يمدح الدواعش وانطلقت الشماريخ، ووزّع الخمر، والزطلة...هي حالات انفلات في ظلّ مجتمع أربكت فيه منظومة القيم، واضطربت فيه المعايير وحلّت فيه الفوضى، وانتشر العنف، وصار المعيار البحث عن مراكز القوّة، ونيل السلطة.
ولكن كيف كان موقف الإطار التربوي ومختلف الذين تفاعلوا مع هذه الثقافة الناشئة ؟ لقد ندّد الباحثون عن الزلاّت بما حدث، واعتبروا ذلك من «فضائح وزارة التربية» وما ترتّب عن انحلال القيم ، والتغريب، وفقدان الوعي بالهوية،... وكالعادة لم تستطع النماذج الإيجابية أن تنال الأهميّة التي تستحقها لأنّ العين كليلة ، تصاب بالعمى فلا ترى إلاّ النواقص، ولا تبالي بمعرفة أسباب الانحراف، والاستهتار ، ولا تسعى إلى تفكيك الظاهرة، وفكّ شفرات الرسائل التي يوجّهها جيل الأبناء إلى جيل الكهول والشيوخ. فقد اغتاظ أساتذة معهد ابن الجزار بمعتمدية قبلي من شعار دخلة تلاميذهم التي لخّصت حالة الاستقطاب التي عاشها المجتمع.
«تاجرتم بالعلم وأنتم عليه مؤتمنون...فخنتم الأمانة وما هكذا المربي يكون»
فنظّموا وقفة احتجاجية وأصدروا بيانا احتجاجيا للنقابة ،وحمّلوا إدارة المعهد المسؤولية، وطالبوها بتتبّع من كان وراء تنظيم الحملة ،وحمّلوها تبعات ما ستؤول إليه الأمور على مستوى علاقة الإطار التربوي بتلامذة الأقسام النهائية.
في بلاد تخطو الهوينى نحو بناء الديمقراطية التشاركية، وعاشت تجربة الحوار الوطني، والتفاوض، والتوافق... يكون ردّ أهل البيداغوجيا على الانتقادات بالتهديد.... عجبي .
ما ضرّ الأساتذة أن يصغوا إلى تلامذتهم ، وأن يراجعوا مواقفهم، وأن يتفهّموا انعكاسات قراراتهم على نفوس من عاشوا فترة عصيبة من الزمن ، وهم يتأهبون لاجتياز أوّل امتحان في حياتهم ؟ في بلاد سخر فيها الشعب من ردّ بن علي حين قال ‹غلطوني› لم يدرك الإطار التربوي التحولات الطارئة على البنى الذهنية والمنظومة القيمية و لم ينتبهوا إلى مرتكزات هذه الثقافة الناشئة، ولم يدركوا أنّ الثقافة المهيمنة باتت تتفاعل مع الثقافات الفرعية.
لم تعد الدولة وحدها الساعية إلى احتكار آليات الضبط الاجتماعي، وتحديد المعنى، فهناك أبنية مجتمعية كمؤسسة العائلة والمؤسسة الدينية ... وهناك ذوات فردية تروم هي الأخرى رسم الحدود، ووضع قواعد اللعبة مع السلطة . ويكمن نجاح هذه المجموعات والأبنية في إدارة هذا التنافس حول إنتاج المعنى والسرديات السلطوية في مدى قدرتها على تعبئة المنتمين إليها.
فهلاّ بسطتم أيديكم، وحاولتم بناء علاقة أفضل مع أبنائكم، وساهمتم في مشاركتهم فرحة الحياة؟ إنّها ثقافة تتشكّل وتتطلّب آليات مغايرة للفهم
امال القرامي .