آراء

شكري بلعيد ... لهذا قتلوك : دم حرام على أعتاب ديمقراطية منكوبة

لم تكن طيّعا كما نزر من بني قومك الذين فتحوا لهم المطارات مشرّعة، وكتبوا لهم صاغرين نصّ «الانتخاب المسموم» ... ولهذا قتلوك ... لم تكن مخاتلا، فقلت ببساطة لخّصت الموقف : إنّهم ظلاميون، قلت أنّهم أعطوا الضوء الأخضر للعنف، والدّم، وصادروا حقّ الإنسان في وطن نظيف، متعدّد، واستلهمت حكمة مسيرة الألف ميل التي تبدأ بخطوة "دع ألف زهرة تتفتّح في بستان الثورة" ولهذا ... قتلوك ...
كنت متعدّدا بصيغة المفرد، بعضك ينتمي إلى سنوات الجمر المحلّي المختزل في صحراء المحتشد ... رجيم معتوق .. وبعضك عراقي الهوى، مسكون بلحظة عربيّة حالمة تكالب عليها الغزاة ... وبعضك مفعم بديمقراطية عصر الأنوار ... أمّا كلّك فينتمي إلى ذلك التلخيص الفوري للموقف "ولو أنّا على حجر ذبحنا ... لن نقول نعم» ... ولم تقل نعم ... ولهذا قتلوك، وأهدروا دما من فصيلة لا ... كلّك ينتمي الى اللحظة الأولى ... جبل جلود، وتلك الأحياء البائسة المتاخمة للمدن، تلك التي نازل أبناؤها الفقر بالثقافة، أو كما يقول صديقك عبد الجبار العش بـ "جمرة المعرفة" .. والمعرفة جمرة في مدن الملح، تلك المبتلاة بالنسخة الأفظع للديكتاتورية "السماوية" ... قلت أنّ تونس منذورة للعلم والنور والعدالة، والحريّة على وجه الخصوص ... ولهذا قتلوك ...
كتبت عن حسين مروّة الذي مات مغدورا .. فمتّ مغدورا .. وهم كذلك لا يواجهون الخصم بوجه مكشوف ... اختبأوا وراء قاتل مقتول، مسبق الشّحن، منزوع الأحاسيس بفعل دروس "أكاديمية" في مفارخ التكفير ... اختبأوا وراءه ... ولا يزال البحث مستمرّا ... لقد أراقوا دمك الحرام على أعتاب ديمقراطية منكوبة ... مفجوعة بغياب المعنى ...
لم تكن موافقا على غياب المعنى، وسمّيت الأشياء بأسمائها : قلت أنّ الرجعيّة والظلامية قد سرقا انتفاضة الكادحين وحوّلاها للحساب الخاص، قلت أنّ السّلاح دخل تونس، وأنّ الموت يتربّص بنخبتها النيّرة، بمناضليها ومبدعيها ... ولهذا قتلوك ...
قلت ما مفاده أنّ الدكتاتورية الطاعنة لا تتناسب مع الديمقراطية الناشئة ... وكيف لأيّ ديمقراطية في الأرض أن تتأقلم مع الذين قضّوا القرن تلو الآخر، في ترجمة أحقاد "اجتماع السقيفة"الى فتن؟؟.. كيف لأيّ ديمقراطية في الأرض أن تتعايش مع «أجناد الخلافة» بالصّيغة المسلحة المكشوفة، و"أجناد الخلافة" بالصّيغة "السياسية المموّهة ؟
فهمت، وأنت الذي يدرك مغزى السّرد الحكائي أنّ الأحداث تتتابع عكسيّا، وأنّ لحظة السلطة كانت مضادّة تماما للحظة الحريّة، فهمت أنّ عقلا أخرس وأصمّ وأبكم قد اغتصب التراث اللاّمادي لتونس ابن خلدون والشابي، وأحلّ محلّه التراث الدّموي لجماعة حسن البنّا، ومريدي محمّد بن عبد الوهاب...
فهمت أنّ نسخة حزبية من هذا قد أطبقت على شرايين الدولة، وأن نسخة تكفيرية من ذاك قد تسلّلت الى شرايين المجتمع من منابر المساجد وحلقات الوعظ ... لقد فهمت، فقاومت ... ولهذا قتلوك ...
لقد أهدروا دم الحركة التقدمية بهدر دمك ... وتلك ضريبة يدفعها الشرفاء، دون سواهم ... رحلت وبقيت الذكرى لمن عايشوك وعاشوا معك ... وأنا أذكر الآن طيفا من ثلاثين خلت، حين كانت أجسادنا النحيلة تجوب ساحات الجامعة تحت يافطة الشبيبة المضطهدة، أذكر الأصوات العميقة التي اختزلتها صدورنا الضامرة، وأذكر أن أشدّ ما كنّا نمقته هو الظلم، وعلى الأخصّ الظلامية ... أذكر أنني تسللت يوما الى معقل الإخوان في كلية الطب بسوسة، وتوجّهت اليهم قائلا «إلى الذين في قلوبهم أحذية عسكرية ..." ولم أكن أعلم أن هذه الأحذية المعجونة بماء الحقد، ستأتيك يوما الى المنزه السادس، وتريق دمك ...
أذكر أننا، تلك الأجساد النحيلة القادمة من بؤس المدن والقرى، قد عرفت أن طريق الخلاص يبدأ بالمعرفة، ولأنّك من عشاق المعرفة، ومن أعداء الجهل ... قتلوك ... لم ترض لتونس ان تترجم مطالب شبابها ونخبتها الى سلطة غاشمة في "إيالة عثمانية بائسة" ... ولهذا قتلوك ...

خليل الرّقيق