تحدّث لا ليرضي بل ليوقظ، لم يبحث عن التصفيق بل عن الفهم. وكان ذلك في العالم العربي ضربًا من التهور.
قال كلمته في فلسطين كما لو أنه يتحدث إلى ولده بلهجة الأب الذي ذاق مرارة الاحتلال وأدرك ثمن النصر فلم يعد يؤمن بالصراخ بل بالبناء البطيء الموجع و الضروري.
دعا إلى الواقعية لا كخنوع، بل كفنٍ من فنون الكفاح. وحين نبّه إلى خطورة "سياسة الكل أو لا شيء" لم يكن يروّج لحل منقوص بل كان يستنهض فكرة: "أن الوصول إلى الهدف لا يعني أن نركض في اتجاهه بأعين مغمضة بل أن نتحسّس الطريق حجارةً حجارة" .
خطابه في أريحا لم يكن عابرًا. لقد واجه فيه "الدولة العاطفية" التي لا تملك إلا الحماس ولا تحتمل صوتًا يخالفها. وهكذا كان جزاءه: اتهامات بالتفريط والخيانة ورجمٌ بالمزايدة من كل صوب. بينما الحقيقة كما خطّها الزمان لاحقًا أن الرجل كان يبصر حيث لا يبصر الآخرون. وأن ما أنذر به قد وقع وما دعا إليه تأخر حتى أصبح حلمًا مستحيلاً.
ربما كان مبكرًا على العالم العربي أن يسمع لصوتٍ مثل بورقيبة. وربما كان مُثقلاً بهمّ تونس فلم يُحسن تزيين رسالته بما يكفي ليُفهم.
لكن ما لا شك فيه، أن خطابه في أريحا ليس مجرد وثيقة تاريخية بل مرآة نرى فيها عيوبنا الكبرى: عشقنا للكلام، وهوسنا بالمواقف التي تقتل أصحابها، فقط لأنهم فكروا بطريقة مختلفة.
اليوم، بعد كل هذه العقود يعود صوت بورقيبة من تحت الركام، لا ليقول "قلت لكم"، بل ليدعونا، من جديد، إلى أن نحاسب العاطفة بعين العقل، وأن نكفّ عن تحويل الخيانة إلى تهمة جاهزة لكل من تجرأ على التفكير بصوت مرتفع.
واليوم، في ظل ما تعيشه القضية الفلسطينية من مآسٍ يومية وما يقترفه الاحتلال الإسرائيلي من هتك فاضح لما تبقّى من حقوق الشعب الفلسطيني، نستشعر أكثر من أي وقت مضى قيمة البصيرة التي امتلكها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. ونحن نحيي اليوم 6 أفريل 2025، الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته فإننا لا نستحضر فقط زعيمًا من الماضي، بل نُعيد الإنصات لعقلٍ كان سابقًا لزمانه… لعلنا نحسن التقدير بعد فوات الأوان.
طارق المنجي المجريسي