في مشهد بقي حكرا مدة طويلة على التعليم العالي العمومي، بدأت الأمور في التغير منذ أكثر من عشر سنوات عندما شرعت الجامعات الخاصة في تونس في مشاركة الجامعات العمومية في استقطاب الطلبة وقد شرع اليوم أكثر من 21000 طالبا في مباشرة الدروس في بضع عشرات من الجامعات الخاصة.
من العوامل الرئيسية التي ساهمت في نجاح تجربة التعليم العالي الخاص في تونس اقتراح أغلب المؤسسات العالية الخاصة على طلبتها مجموعة متنوعة من الاختصاصات العلمية والتقنية إضافة جودة البرامج المقترحة التي فرضت هذه المؤسسات في الميدان وجعلتها متميزة عن كثير من مثيلاتها في القطاع العمومي. زد على ذلك أن المؤسسات العالية الخاصة تمنح طلبتها فرصة اختيار المسار العلمي المفضل والحصول على المؤهلات التي تتناسب مع طموحاتهم في وضع موطئ قدم في سوق الشغل.
ومن المتعارف عليه تقليديا في مجتمعنا هو استعداد شرائح اجتماعية كبيرة للاستثمار في مجال التعليم، فنجد العائلات على استعداد لدفع تكاليف باهظة أحيانا لضمان تعليم جيّد لأبنائها والحصول على شهادة تفتح لهم أبواب العمل وآفاق محترمة حتى وإن تطلب الأمر دفع تكاليف دراسية تبلغ في المعدل حوالي 4000 إلى 7000 دينار سنويا للطالب الواحد في المؤسسات العالية الخاصة وهي تكاليف أقل بكثير من تلك التي تطلبها مؤسسات شبيهة في الخارج.
كما يُعدّ التعليم العالي الخاص أكثر انسجاما مع احتياجات أصحاب الأعمال والمستثمرين الخواص لذا نجده قد أحدث لطلبته شعبا ملائمة لرغباتهم وطموحاتهم في التشغيل مثل إدارة الأعمال وعلوم الإعلامية والتسويق والاتصالات والتصميم والإنترنت والهندسة المعمارية. فكان عموما أكثر انفتاحا على سوق الشغل في تونس، إذ تم استيعاب 80٪ من خريجي التعليم العالي الخاص على مدى العقد الماضي من قبل المؤسسات العاملة في القطاع الخاص.
أما من حيث جودة الخدمات البيداغوجية التي تقدمها المؤسسات العالية الخاصة، فقد غيّر اعتمادها المكثف على التكنولوجيات الجديدة طرق التدريس وتدعمت النظم الكلاسيكية للتعلّم التي تم إثراؤها بطرق مستوحاة من ميدان الوسائط المتعدد فظهرت الدورات الدراسية على الانترنت والمناقشات التفاعلية والدروس عن بعد مما وفّر المزيد من الوقت للطلبة حتى يتمكنوا من العمل بشكل تفاعلي.
من علامات تميّز التعليم العالي الخاص إقبال الطلبة الأجانب ومعظمهم من إفريقيا الفرنكوفونية أساسا ويمثلون 30٪ من الطلبة تقريبا مما يوفّر عائدات محترمة من النقد الأجنبي ويخلق فرص عمل. أما على المدى البعيد، فمن نتائجه الترويج للاقتصاد التونسي خاصة أنّ خريجيه سيتبوّؤون مواقع صنع القرار في بلدانهم.
ارتفعت وتيرة التحاق الطلبة بالتعليم العالي الخاص طالب لتبلغ اليوم أكثر من 50٪ في عشر سنوات أي ما يزيد عن 7٪ من إجمالي عدد الطلبة في البلاد مما جعل من ميدان التعليم العالي الخاص فرصة هامة بالنسبة إلى المستثمرين.
غير أنّ الاستثمار في هذا القطاع يتطلّب الدفع بمبالغ مادية هامة ناهيك عن ميزانيات التسويق لجذب الطلبة الجدد في سوق تنافسية تحتد فيها وتيرة المنافسة بشكل متزايد.
إضافة إلى نوعية التكوين الذي توفره مؤسسات التعليم العالي الخاص فإنّ جودة التعليم تعتمد كذلك على مستوى المدرسين الذي يؤثر بشكل منهجي على جودة ما يُقدم للمتخرجين. وجدير بالذكر في هذا المجال أن هذا القطاع يسعى بخطى حثيثة إلى ضمان جاذبية عالية للإطار البيداغوجي ذي الكفاءة العالية خاصة في مجال تأطير الطلبة في مراحل البحث العليا.
أما بالنسبة إلى قيمة الشهادات العلمية التي يتحصل عليها المتخرجون، فإن الدولة هي الضامن لها من خلال توفير المعادلة والاعتراف بها كشهادات لا فرق بينها وبين تلك التي تصدر عن المؤسسات العالية العمومية وإن كانت بعض المؤسسات العالية الخاصة قد فاقت البعض الآخر من مثيلاتها العمومية في الجدية وجودة التكوين خاصة بفضل عقد شراكات مع جامعات أجنبية مما أدى إلى تعزيز مصداقية الشهادات التي تصدرها.
كما يُمكن لمؤسسات التعليم العالي الخاص التي تسعى إلى التميز والتفوق استيعاب الطلب على مهارات محددة باستهداف خبرات جديدة في مجالات محددة أو اقتراح اختصاصات مبتكرة على طلبتها بالنظر إلى بطئ المنظومة العمومية في تغيير مناهجها وإقحام مجالات تكوين جديدة.
بكل تأكيد سيشهد قطاع التعليم العالي الخاص مستقبلا أفضل ونموا أسرع. فقد تحوّل إلى سند للتعليم العالي العمومي بطاقة استيعاب تخفف عنه الأعباء في عدة اختصاصات وصار بديلا موثوقا في جديته قادر على منافسة المنظومة العمومية حتى في الاختصاصات التي اشتهرت بها تقليديا.
ارابسك