بقلم منذر بالضيافي
أجبرت الأوضاع الصعبة التي تمر بها تونس، الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية، حركة "نداء تونس"، على تشكيل حكومة "تحالف حزبي" واسعة، تضم حزب "النهضة" الإسلامي، الذي بنت الحركة – نداء تونس- حملتها الانتخابية على "شيطنته"، ما أعتبر خيانة من قبل قيادات الحزب قبل قواعده. لكن، لاكراهات السياسة أحكام أخرى، لا يفقها الا المطلعين على خبايا الأمور. فهل أن تحييد المعارضة المؤسساتية – في البرلمان- كاف لجعل الحكومة تعمل بدون ضغوطات؟
منذ الأسبوع الأول لحكومة الصيد، تبين أن الوصول الى تشكيل حكومة "تحالف"، ليس الضامن الرئيسي لتحقيق الاستقرار. وهي حقيقة واجهتها الحكومة مبكرا ، ونعني هنا الحركة الاحتجاجية في الذهيبة وتطاوين. التي بعثت برسالة مهمة، تتمثل في أن "الأزمة الاجتماعية" تؤشر لموجة جديدة من الاحتجاجات الاجتماعية، وعلى الحكومة التعاطي معها بجدية، لأنها لا تهدد الحكومة فقط، بل تهدد بتقويض المسار السياسي الذي جاء بها. و في الواقع فان جل المتابعين للمشهد السياسي والاجتماعي التونسي، كانوا قد نبهوا إلى أن تردي الوضع الاجتماعي، بسبب الفقر وتدهور المقدرة الشرائية، يهدد بما سموه ب "ثورة الجياع".
مع ذلك نري أن الحكومة ومن خلال تعاطيها مع احتجاجات الجنوب وإضراب الأساتذة، بدت كما أن المستجدات باغتتها بل أخذتها على حين غرة. ما كشف على أنها لم تستعد كما يجب لمواجهة، هذا الخطر الداهم والمتمثل في الاحتجاجات سواء المنظمة التي تدعوا إليها وتؤطرها النقابات (إضراب الأساتذة مثلا )، أو تلك العفوية التي يحركها الغضب الكامن، لدي فئات وشرائح بسبب تردي أوضاعهم، الذي يعتبرونه بمثابة إهمال يصل حد الإقصاء والتهميش (مثال تحركات الذهيبة وبن قردان)، وهو ما ينمي مظاهر الانقسام المجتمعي.
كان على حكومتنا العتيدة، أن تدرك جيدا – منذ لحظة تشكيلها - أن المرحلة القادمة ستكون حرجة، بالنظر الى حجم التحديات وكذلك الانتظارات. وأنها ستكون في كماشة بين ضرورة الانكباب على ترميم الوضع الاقتصادي من جهة، والعمل على الحدّ من المطلبيّة وترويض الحراك الاجتماعي من جهة ثانية. وأن "النجاحات السياسية" التي تحققت خلال السنوات الأربعة الأخيرة، تبقي بلا معنى ومهددة بالانتكاس اذا ما تواصلت الأزمة الاجتماعية.
كشفت إدارة الحراك الاحتجاجي الجنوبي، وأزمة العلاقة بين أساتذة الثانوي ووزارة التعليم، على أن الحكومة تفتقد إلى رؤية لإدارة الحوار الاجتماعي. ما جعلها تفشل في إيجاد الحلول المناسبة، وتجنب المرور نحو الأسوأ، الذي حصل من خلال سقوط قتيل في مواجهات بين الأمن والمحتجين في الذهيبة، وبالتالي تزايد منسوب الغضب والاحتقان الاجتماعي، في منطقة حساسة جدا خاصة في علاقة بالأمن والحرب على الإرهاب. وهي أوضاع لم تنجح زيارة رئيس الحكومة لهذه المناطق في الحد من اشتعالها، وكل ما استطاعت إليه سبيلا هو تأجيلها، لتبقي النار تحت الرماد، كما يقال.
كما تبين من خلال أزمة نقابة أساتذة التعليم الثانوي، وجود حالة من الارتباك الحكومي في التعاطي مع الطرف النقابي، وبعيدا عن تحميل المسؤولية في ما حصل (وهو رفض الأساتذة إجراء الامتحانات إلى حين الاستجابة لمطالبهم )، فان الحكومة دائما مطالبة بابتداع الحلول عبر حسن إدارة التفاوض، من أجل جر الطرف النقابي إلى تعديل مواقفه ودفعه للتنازل والمرونة، وهذا ما لم يحصل. لتجد الحكومة نفسها مرة أخرى أمام فشل أخر في التعاطي مع "المطلبية" التي لا يتوقع ان تتراجع، كما يروج الى ذلك البعض سواء في السلطة أو لدي بعض الإعلاميين، نظرا لطغيان المطالب الفئوية على المصلحة العامة.
وهي ظاهرة لا يمكن تجاوزها إلا عبر حوار وطني، ينطلق بإعطاء المثال من قبل الجانب الحكومي، من خلال فرض إجراءات تقشفية تطبق على الجميع، تقطع أولا مع توزيع الامتيازات على كبار المسؤولين والوزراء، وذلك يكون بعد المصارحة بحقيقة الوضع الاقتصادي الذي تمر به البلاد، ومخاطر الاستمرار في التداين على مستقبل البلاد وخاصة السيادة الوطنية. بهذا يمكن المرور الى التأسيس لسياسة تضامن وطني تشارك فيها كل الفئات. هذا دون أن ننسي طبعا، حرص الدولة على البداية في تطبيق إصلاحات لمقاومة التهرب الجبائي، نحو عدالة جبائية حقيقية. إضافة إلى إيجاد حل للمؤسسات المصادرة، وملف رجال الأعمال والقضاء على "الحيتان" الكبيرة في التهريب.
إن حساسية الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتداعياته الخطيرة التي ستكون – لو استمرت- مقدمة للفوضى، خاصة في ظل مناخ داخلي وإقليمي، تغلب عليه مظاهر عدم الاستقرار، بسبب تنامي الخطر الإرهابي. كل هذا يفترض دعم الوحدة الوطنية، ما يفترض أساسا الابتعاد عن بعض الممارسات السلبية، مثل التي رأيناها في الأزمة بين الأساتذة ووزارة التربية، حيث لاحظنا ما يشبه إدارة لحملة إعلامية، تهدف لشيطنة الأساتذة وكذلك الاتحاد العام التونسي للشغل، وهي ظواهر خلنا أنه تم تجاوزها لكن يبدوا أن البعض يحن إليها ويعمل بالليل والنهار على إحيائها. ممارسات عتيقة من شأنها أن تعمق الأزمة وتؤخر فرص الحل.
إن الجميع يدرك أن الأوضاع التي تمر بها بلادنا صعبة وأن الحكومة لا تملك عصا سحرية لحلها، وهو ما يفترض المرور لإقرار "برنامج إنقاذ وطني"، مثلما دعا إلى ذلك كمال مرجان رئيس حزب المبادرة الدستورية. برنامج تشارك في إعداده كل الأطراف سواء كانت سياسية أو اجتماعية. فلا يمكن للأحزاب لوحدها أن تتحمل مهام إدارة المرحلة، خاصة إذا ما علمنا ما تعانيه هذه الأحزاب من انقسامات وأزمات، فأغلبها أحزاب مستجدة بما في ذلك الحزب الحاكم.