آراء

بعد تصريحات الجنرال عمار : من يخطط لإقحام الجيش في السياسة ؟

قال الجنرال رشيد عمار، قائد الجيش التونسي الأسبق، في تصريح اعلامي "مفاجئ" ما مفاده أن المؤسسة ممثلة في شخصه، رفضت تسلم السلطة، في 14 يناير 2011 بعد مغادرة الرئيس الأسبق، زين العابدين بن علي للسلطة. أهمية بل "خطورة" مثل هذا التصريح، ليست في أنه كشف عن بعض ما حصل في اليوم الأول للثورة، بل يجب النظر الى تداعياته على المشهد الحالي، وهو مشهد يوصف بأنه "هش" بالنظر للمخاطر الأمنية في علاقة بالخطر الارهابي، الذي يتربص بتونس في الداخل (خلايا نائمة وحاضنة شعبية تساند المتشددين) ، وعلى الحدود (داعش على بعد 70 كيلومتر من الجانب الليبي). كما أن مثل هذا التصريح يفهم على أن هناك من يخطط بالليل والنهار لتوريط المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، التي هي محكومة بالتجاذبات والصراعات، سواء منها الايديولوجي أو المرتبط باللوبيات (زمر الضغط) التي تحولت الى حقيقة واقعية، في المشهد السياسي والاعلامي الحالي، وهو ما يقر به كل الفاعلين السياسييين.
1
من هنا فان تصريحات الجنرال عمار من شأنها أن تزج بالمؤسسة العسكرية في الصراع السياسي، وهو أمر خطير ويهدد الأمن القومي، بالنظر الى طبيعة المرحلة الهشة أمنيا واقتصاديا ومجتمعيا، يضاف اليها تواصل التجاذبات السياسية سواء بين الأحزاب أو داخل الحزب الواحد على غرار ما يحصل في حزب "نداء تونس". خصوصا وأن المؤسسة العسكرية في هذا الوضع المتقلب والغير مستقر، تمثل اخر أسوار حماية "الدولة"، اذ أن اختراقها أو ارباكها سيمثل بدون شك بمثابة الاعلان عن تفكيك الدولة، وبالتالي انزلاق البلاد نحو أوضاع أمنية شبيهة بما يحصل في اليمن وسوريا وليبيا.
هذا ما نبه اليه بوضوح الوزير الأول السابق، محمد الغنوشي، عندما تساءل لمصلحة من اثارة مثل هذه المغالطات. وهو ما أكد عليه أيضا، مدير الاستخبارات العسكرية السابق، الجنرال أحمد شابير عندما قال في تصريح له معلقا على الجنرال عمار، بأن "ثمة عمود في البلاد مازال لم ينهار (في إشارة إلى المؤسسة العسكرية) وهناك من يريد زعزعته". كما أكد في ذات السياق على أن "المؤسسة العسكرية في تونس لم تطمح يوما للحكم سواء في الماضي أو في الحاضر رغم الفرص التي كانت تخوّل لها ذلك..".
2
بالعودة لتصريحات الجنرال عمار، نشير الى أنه أكد على أن كل من الوزير الأول محمد الغنوشي ووزير الداخلية محمد فريعة ووزير الدفاع رضا قريرة، ثلاثتهم عرض على الجيش تسلم السلطة، وذلك خوفا من أن تستولي حركة "النهضة" على الحكم، وفق تعبيره. وتابع الجنرال رشيد عمار، أنه رفض هذا العرض الذي قدم له، وأرجع ذلك إلى "أنه يحب أن تكون تونس ديمقراطية فيها الحريات مضمونة إلى أن يتم تنظيم انتخابات ديموقراطية تفرز ما يريده الشعب التونسي"، وفق تصريحه. وهي اتهامات صريحة لثلاثة وزراء بأنهم خططوا وعزموا على تنفيذ انقلاب عسكري. وكان هدفهم في ذلك ليس انقاذ تونس في المقام الأول من الفوضي، بل قطع الطريق على الاسلامييين من التسرب الى السلطة وبالتالي حكم البلاد. ما يدفع للتساءل عن مدي صدقية مثل هذا التصريح. ولماذا الان بالذات بعد أن نجحت تونس في الانتقال من السلطة المؤقتة الى سلطة شرعية منتخبة من قبل الشعب.
3
أكدت لي شهادات شخصيات، شاركت في ادارة الأيام الأولى بعد الثورة، على أن "الحالة" الغالبة على كل رجال ورموز النظام السابق، وكذلك مؤسسات الدولة هي "الصدمة". من ذلك أن الادارة التونسية واصلت تأمين خدمات المرفق العام، في قطاعات هامة واستراتيجية دون ادارة أو اشراف أو حتى "تعليمات"، هذا نتيجة عقلانية البيروقراطية الادارية المتجذرة في تونس، والتي ارتبطت بوجود دولة مركزية تعود للفترة الحسينية، استطاعت بسط هيمنتها على المجال الجغرافي وكذلك السوسيو-ثقافي، وترجم من خلال اشتغال بقية التنظيمات والمؤسسات المرتبطة بثقافة الدولة.
كما لاحظنا، من خلال استعادة ما حصل في الأيام الأولي للثورة، أن حالة "الصدمة" نجم عنها ممارسة سياسية جمعت بين الارتباك ومحاولة "الانقاذ" وتحاشي الفوضي، وهو ما قبل به غالبية التونسيين، الذين لم ير البعض منهم ضررا في استمرار الوزير الأول في عهد بن علي، محمد الغنوشي في ادارة البلاد. على اعتبار وأن "ثورتهم" تمثلت في تحقيق هدفها وهو اسقاط النظام الذي هو في نظرهم ممثل في الرئيس الأسبق بن علي وعائلة أصهاره، وهذا هو جوهر شعار المتظاهرين يوم 14 جانفي 2011، أمام وزارة الداخلية: "الشعب يريد اسقاط النظام". وهو وضع كان يمكن أن يستمر لولا تحرك مجموعات "احتجاجية" صغيرة اعتصمت بالقصبة وفرضت على محمد الغنوشي الرحيل، برغم أنه هو بدوره وجد شريحة مهمة من الطبقة الوسطي وكبار الاطارات الذين عبروا عن تمسكهم به من خلال التظاهر والاعتصام (اعتصام قبة المنزه). لكن الوزير الغنوشي اختار الاستقالة على المواجهة، نظرا لعدم قدرته على ادارة مرحلة منفلتة بحكم تكوينه وطبيعة شخصيته، التي جعلته يتحاشي الصدام دون أن يسلم البلاد للمجهول، بعد أن تم اقتراح الأستاذ الباجي قائد السبسي لرئاسة الحكومة، ما يعني استمرارية النظام والدولة وتجنيب البلاد الانزلاق نحو المجهول.
4
ان حالة الارتباك و"الصدمة" التي ميزت أداء الفاعلين السياسيين والأمنيين، تنسحب أيضا على المؤسسة العسكرية، التي لم تكن مهيأة لمجابهة وضع مماثل للذي حصل يوم 14 جانفي 2011. نظرا "لعقيدتها العسكرية" التي تربت عليها وتحولت الى ثقافة عسكرية، تقوم على رفض التدخل في العمل السياسي. كما أن حجمها وجاهزيتها لم يكن يسمحان لها بلعب دور سياسي خاصة بعد الثورة. وهو ما يدركا قادة الجيش وكذلك القيادة السياسية ممثلة في محمد الغنوشي، الذي واصل أداء مهامه بعد الفراغ الذي حصل في رئاسة الجمهورية. الذي استدعي الجيش لا لضبط النظام فقط وانما لتأمين خدمات المرفق العام، وكل ذلك تم تحت اشراف محمد الغنوشي ومن مكتبه بقصر الحكومة بالقصبة، وفق تأكيدات مصادر عايشت تلك الفترة عن قرب. وهي وظيفة قام بها الجيش بكل حرفية وأمانة، وكانت وما تزال محل تنويه واشادة من قبل كل التونسيين، الذين يجمعون على احترام الجيش وهو احترام مستمد من وفاء المؤسسة العسكرية لعقيدتها التي جبلت عليها منذ نشأتها. عقيدة حرصت السلطة السياسية أيضا على احترامها بل تجذريها، ولعل أحداث ما بعد 11 جانفي 2011 تؤكد ذلك. فالجيش التونسي كان قد لعب دورا أساسيا في حماية أمن البلاد بعد ثورة 14 يناير، وأنه حرص على عدم التدخل في الشؤون السياسية في كل الحكومات التي تعاقبت على الثورة. بما في ذلك الحكومة التي أدارت البلاد بعد خروج الرئيس زين العابدين بن علي، برئاسة وزيره الأول محمد الغنوشي. ولعل هذا ما يفسر خروج محمد الغنوشي عن صمته بعد تصريحات الجنرال رشيد عمار. وهو المعروف عنه ميله للصمت سواء لما كان في الحكم أو خلال كامل السنوات الخمسة التي تلت الثورة.

5
اختار الوزير الأول الأسبق محمد الغنوشي الرد نظرا لادراكه لخطورة مثل ما قاله الجنرال، وذهب أبعد من التكذيب الى التساؤل " عن الخلفيات التي دفعت برشيد عمار لتقديم معلومات خاطئة ولمن مصلحة من إثارة مثل هذه المغالطات؟". ، وفق قول الغنوشي. وهو سؤال في محله ويبقي في حاجة للكشف عن خفاياه وأسراره. وهنا نشير الى أن الغنوشي أكد على أن اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي يوم 14 جانفي 2011 لم يطرح مطلقا مطالبة الجيش بمسك السلطة. ولم يطلب أحد من الجنرال رشيد عمّار أن يتولى الجيش السلطة. قبل أن تمسك بها حركة النهضة. وهو ما أكد عليه وزير الداخلية أنذاك أحمد فريعة، الذي كذب رواية رشيد عمار لما حصل بعد فرار الرئيس التونسي بن علي، وكل ما حصل في مقر وزارة الداخلية. وشدد فريعة على"أن ما صرح به عمار عاري من الصحة وأن ذالك الاجتماع لم يتطرق الا لموضوع المرور من الفصل 56 الى 57 من أحكام الدستور، وهما فصلين يضبطان تراتيب انتقال السلطة في صورة حدوث فراغ في منصب الرئيس.
على أن المهم في رد فريعة هو أنه ذهب الى ما ذهب اليه محمد الغنوشي، عندما عبر عن استغرابه من تصريحات الجنرال عمار. وهو استغراب بالاضافة
الى تشكيكه وتكذيبه لتصريحات ، فانه يتنزل في التأكيد على أنه مناقض للعقيدة العسكرية، التي ترفض التدخل في الشأن السياسي.
منذر بالضيافي