آراء

تخوّف من صفقة لإعادة المقاتلين من بؤر التوتر: غموض في موقف الدولة وتحضير لأرضية التّغاضي

 لم يمرّ التصريح الأخير الذي أدلى به رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، في حوار أجراه في بروكسال، قال فيه أن تونس مستعدّة لعودة المقاتلين من بؤر التوتّر، وأنها لن تسجنهم لكنها ستراقبهم، وأضاف أن البلاد لا تمتلك متّسعا في السجون لاحتوائهم.

غرابة التصريح أنه يأتي على لسان أعلى سلطة في البلاد، وفي بلد أوروبي ولوسيلة إعلام غير تونسية، أي أنه يحتوي رسائل لا يعتقد عاقل أنها غير موجّهة لأطراف بعينها، كما لا يمكن لعاقل أن يصدّق أنها مجرّد حديث على هامش الحوار الذي أجراه، أو أنها مجرد إجابة تقليدية على سؤال عرضي في حوار صحفي.
فالرجل هو رئيس الدولة ووسيلة الإعلام التي تحاوره أوروبية ومكان الحوار بروكسال، وكل كلمة فيه تكون مقصودة لذاتها ولما وراءها، فكيف يمكن لرئيس دولة ديمقراطية تفتخر بنموذجها الشفاف في الحكم، أن يخالف القانون علنا، وأن يدلي بتصريح بهذه الخطورة ووراءه رسائل بهذا الحجم.
فالقانون التونسي يجرّم كل من سافر الى بؤر التوتّر أو ساهم في تكوين وفاق اجرامي خارج أرض الوطن في زمن السلم، أو قتل نفسا بغير حقّ، وغيرها من الفصول سواء في القانون المدني الجزائي أو في قانون الارهاب، فكيف سمح رئيس الدولة لنفسه بخرق القانون والانتصاب بدلا عن القضاء ليفتي بالسماح بعودتهم ويؤكد انهم لن يحاكموا ولن يُسجنوا؟
كثيرون ذهبوا الى أن وراء هذا التصريح اتفاق ما، قد يكون مع جهات خارجية، معنيّة بأمر هؤلاء المقاتلين، أو تمتلك التزاما تجاههم، وتريد حمايتهم، فيكون الرئيس قد طمأن هذه الاطراف على ضمان سلامتهم، بل واعفائهم حتى من المساءلة رغم الجرائم التي ارتكبوها في سوريا والعراق وليبيا وغيرها. وهو أمر غير مستبعد خاصة اذا ما علمنا أن لتونس سوابق في هذا الاطار، خصوصا مسألة العفو التشريعي العام، والمئات من الارهابيين الذين أخرجهم من السجون وأسقط عليهم كل الاحكام وحتى التتبعات، ليتورطوا – دون استثناء تقريبا – في عمليات ارهابية داخل وخارج تونس.
آخرون، فسّروا التصريح على أنه نتاج لتوافق داخلي مع بعض الاطراف القريبة من هؤلاء المقاتلين، وأن هذا الاتفاق قد لا يكون لاقى ترحيبا لدى أطراف أجنبية، فأراد الرئيس التأكيد على أنه ماض فيه، وأراد ايصال رسائل الى الذين لا يعجبهم هذا الاتفاق، من أهمها وأطرفها ربما ان السجون التونسية لا تتسع لهذه الاعداد العائدة من بؤر التوتّر، وبالتالي ستتركهم طُلقاء.
جهات أخرى ذهبت في تفاسير متعددة لعل أبرزها أن تونس ملتزمة في نطاق الحلف العربي وتحديدا مع السعودية وقطر، وايضا بحكم العلاقات الجيدة بأمريكا وتركيا، أن لا تحاكم هؤلاء العائدين، وأن لا تحاسبهم، في انتظار ما قد يستقر عليه الرأي لدى مشغّليهم والدول الراعية لهم، ما اذا كانوا سيحتاجونهم في اشعال حرب في بؤر أخرى أم قد يتركونهم لتقاعد مريح في تونس.
وهي كلها تأويلات طبعا لحديث رئيس الجمهورية، لكنها تأويلات من حقّها أن تذهب في اتجاه أي تفسير ممكن، طالما ان رئاسة الجمهورية ملتزمة الصمت تجاه هذا الموضوع، ولم تشرح ولم تفسّر ما أحاط به، وما قد يترتّب عنه، وما تنوي الدولة فعلا أن تقوم به في مجال التعاطي مع العائدين من بؤر التوتر.
لكن الذي ذهب اليه العديد من المتابعين، هو الربط بين تصريح رئيس الجمهورية وبين عديد التصريحات السابقة، سواء تلك الصادرة عن الشيخ راشد الغنوشي السنة الفارطة، حين تحدث عن قانون يشبه قانون الوئام المدني الجزائري، أو المفكر القريب من الاسلاميين، صلاح الدين الجورشي الذي تحدث في احدى الحصص التلفزية منذ قرابة النصف عام، عن قانون التوبة، أو حتى وزير العدل السابق الذي لم ير مانعا من عودة هؤلاء وامكانية استيعابهم، أو ما سمّاه ساعتها باعادة تأهيلهم.
لكن الذي يزيد في نسبة الشكوك لدى المتخوفين من عودة هؤلاء، هو الارضية الاعلامية التي يلاحظ الكثيرون هذه الايام أنها بدأت تتهيأ لاستقبال هؤلاء أو على الاقل تحضير مناخ يتقبّلهم ولا ينفّر منهم الشارع التونسي.
فالكثير من القنوات أصبحت لا ترى حرجا في استقبال بعض رموزهم، أو على الأقل بعض الرموز التي لها تأثير إيديولوجي عليهم، في بلاتوهات تلفزية وإعلامية، وتقديمهم إلى الناس على أنهم (ارهابيون تائبون) وفسح المجال أمامهم للحديث عن الظاهرة وكأنها جهاد في سبيل الله، وتمرير المعلومات التي تكتسي بطابع التوبة لكنها في الواقع تريد أن تقنع بأن الذي فعلوه ويفعلونه هو عن قناعة وانه واجب شرعي، حتى وان كانت قد وقعت «أخطاء غير مقصودة» أو مبالغات في التأويل والتفسير، أو حماسة زائدة عن اللازم من بعض هؤلاء الشباب المتهوّرين، داعية لهم في نفس الوقت بالهداية وداعية الآخرين لتقبّلهم والحديث معهم واحتوائهم لا كفئة ضالّة ارتكبت جرائم حرب شنيعة، بل كمغرّر بهم، أبرياء وقع الزجّ بهم في أحداث، توشك أن تنتهي الآن ولا فائدة في تعقيدها.
صحيح أن هؤلاء تونسيون، وصحيح ايضا أن القانون التونسي لا يمكن أن يمنع أحدا من العودة الى البلاد متى أراد، لكن الاصح أيضا أن القانون التونسي يحاسب كل من ارتكب جرائم ارهابية خارج البلاد او حتى سعى إلى تكوين وفاق في زمن السلم من أجل نيةّ القيام باعمال ارهابية. فكيف سيتم التعاطي مع هؤلاء؟
مصادر أمنية تحدثت منذ أكثر من ستة أشهر عن وصول ما يقارب الالف وستمائة من هؤلاء العائدين من سوريا، ومصادر أخرى تتحدث عن أضعاف هذا العدد، وآخرون يذهبون الى أن العدد بالآلاف، خصوصا بعد الذي يجري في الموصل وفي حلب الان، والاعداد الكبيرة التي تمكنت من الهروب الى خارج سوريا والعراق، والتي بلا شك تبحث الان عن طرٌق آمنة للعودة الى تونس.
ولا شك ان التعاطي مع هؤلاء، لا يمكن أن يكون بتركهم يرتعون في البلاد بلا حسيب ولا رقيب، ولا محاكمة ولا محاسبة، لكن الاهم من كل ذلك هو نيّة الدولة وتوجّهها السياسي في التعاطي معهم.
إذ لا يكفي ما تبديه الأجهزة الأمنية من حرص على مراقبتهم، بل لا بد من خطة وطنية متكاملة تضع أسسا لمحاسبة كل عائد من سوريا والعراق وليبيا، وتصنّفه في الخانة القانونية التي تنطبق عليه، ومن بعد ذلك يأتي دور الذين ينظّرون للمراجعات أو التوبة والوئام، وحتى الذين يتحدثون عن إعادة التأهيل.
فورطة بهذا الحجم لا يمكن حلّها فقط عن طريق التغاضي عن عودتهم وفتح البلاد أمامهم ليدخلوها ويرتعوا فيها متى شاؤوا. وهي أيضا ورطة تستدعي استنفارا غير عادي، للتعامل مع أناس غير عاديين، بل مدرّبين على كل فنون القتال والقتل، وعاشوا في أوضاع وظروف أقل ما يمكن القول عنها أنها كانت وحشية دموية، ومرتبطين بشبكات تسفير وتجنيد من مختلف أرجاء العالم، وأقسموا يمين الولاء لتنظيمات لا يمكن الرّكون إلى توبتها أو تصديق مراجعاتها.
وبالتالي فان الحذر الشديد واجب، وعملية عودة هؤلاء ستكون محفوفة بمخاطر كبيرة، وكل غلطة في التعاطي معهم قد تكون كارثة في حدّ ذاتها.
 
محمد بوعود