'من المُتّجهِ فَتْح نقاشٍ وتقييم حقيقيين حول علاقة التيّارات التقدّمية بالسلطة بعيدا عن التبريرات والهرطقات الفكرية والسياسوية العقيمة» هذا جزء من تدوينة نشرها الصديق سمير العبيدي على تويتر'،
ونعتقد أنّ طرح هذا الإشكال المهمّ يكتسي طابعا عاجلا ومصيريا بالنسبة لاستمرار وجود التيّارات التقدّمية الوطنية وفِي ضوء ما تعيشه تونس بمناسبة تشكيل الحكومة.
نّ خصوصية المجتمع التونسي التي ميّزته عن باقي المجتمعات إقليميا وفِي فضاء الدول الإسلامية هي قوّة التيّار التقدّمي الوطني الإصلاحي والذي كان وراء كلّ المنجزات التقدّمية والحداثية والتي جعلت النموذج التونسي متفرّدا في محيطه الإقليمي والدولي ، وبالتالي فإنّ ما وصلت إليه هذه التيّارات والأحزاب من أوضاع مزرية تهدّد كياناتها ووجودها يدفع إلى فَتْحِ نقاش جدّي حول الموضوع.
وإنّه من العيب أنْ ينحصر التناقض في تونس بين اليمين الديني واليمين الليبيرالي الانتهازي وتغيب عن المشهد القوى التقدّمية وقوى اليسار الجدّي.
وفي ما نرى ونعتقد فإنّ سمير العبيدي قد وضع إصبعه على الداء إذْ إقترح طرح السؤال الفكري الإستراتيجي والذي يستوجب تقديم إجابات جريئة وشجاعة وهو: من هو التيّار التقدمّي وماهي المهام المنوطة بعهدته وماهي مقاربته للسّلطة؟!
هو إقترح قاعدة انطلاق سياسية لهذا النقاش الضروري وهي ، تقييم خماسية الحُكْمِ (2019/2014 ) من أجل البحث في آفاقها وفِي تداعياتها.
وقد لا نضيف شيئا إذا قلنا إنّ القوى التقدّمية من اليسار تحديدا تعيش دوما تحت وَقْعِ «فوبيا» السلطة وهي تكادُ تكون تكلّست في موقع المعارضة وهي راضية في ما يبدو بقسمتها ، إذْ اختزلت عملها وبرامجها وخططها المستقبلية في الحراك الاحتجاجي وفِي الشعارات والبرامج القُصْوَوِيَّةِ التي تفتقر للتكتيكات الضرورية لتجسيدها على أرض الواقع.
ومعلوم أنّ عدم حَسْمِ العلاقة بالسلطة هو من المعوقات الأساسية التي تحول دون هذه القوى التقدّمية وتطويرها لأداءٍ سياسي من شأنه أن يُوصلها إلى الحُكْمِ إنْ كان ذلك على مراحل أو طفرة واحدة . وبالمناسبة فإنّ القوى التقدّمية في تونس ليست الاستثناء فكذلك هو حالها في دُولِ المنشإ الديمقراطي ..فرنسا وإيطاليا مثالا.
وإنّ ما تعيشه تونس من مرحلة انتقالية يفرض كذلك على قُوانا التقدّمية واليسارية تقديم رؤية واضحة بخصوص المسألة الديمقراطية وذلك لاستئصال ما عَلِقَ بممارساتها مِنْ تَشّبُّهٍ بالفكر الإستبدادي ،
إذْ لا ينبغي أنْ يغيب عن أذهان البعض أنّ تناقضها مع اليمين الليبيرالي التقدّمي الوطني - وإضافة إلى البُعْدِ البرامجي- كان حول المسألة الديمقراطية ،
ولكلّ ذلك فإنّ حَسْمَ مسألتي العلاقة بالسلطة وبالديمقراطية يجب أن يكون في قَلْبِ أيّ عملية تقييم مستقبلي.
إنّ الرّبط بين المسألة الديمقراطية والسلطة هو مسألة أوّلية (un préalable) حتّى تتمكّن القوى اليسارية التقدّمية من هَضْمِ عملية المشاركة في السلطة وبناء تحالفات مع قوى تلتقي معها في نزعاتها التقدّمية والحداثية وتختلف معها بدرجات متفاوتة حول السياسات والبرامج وتكون المسألة الوطنية هي الوعاء الجامع لِمِثْلِ هذه التحالفات التي لا مناص منها لاسترجاع دورها في المشهدين السياسي والحزبي.
ولن يكون في تقديرنا لقوى اليسار التقدّمي أيّ مستقبل ما دام قرار المشاركة في الحُكْمِ والسلطة مايزال غائبا عن جدول أعمالها .
إنّ المشاركة في الحُكْمِ والسلطة بدايته الإيمان العميق بالديمقراطية وبقواعد لعبتها ،
وهو ما يُحتّم على من يريد الحُكْمَ والسّلطة أنْ يُتْقِنَ ويُحْسِنَ التعاطي مع الميدان خطابا وممارسة وتحالفات ، وفِي الميدان تُبنى العلاقة بالمواطن الناخب وتتكوّن فيه التحالفات مع الأطراف المتشابهة.
إنّ غياب العمل الميداني الذي يستند إلى رُؤى فكرية وسياسية واضحة المعالم من شأنه أنْ يُغَيِّبَ على المدى المتوسّط والبعيد القوى التقدّمية من المشهد السياسي وهو ما يفتح الباب مشرعا أمام قوى اليمين الديني واليمين السياسي الانتهازي وقد بدأ هذا الشبح الذي يُخيّم الآن على تونس ويهدّد بنسف مشروعها الحضاري المتفرّد.
إنّ عملية الإنقاذ تستوجب من الوطنيين والتقدّميين شجاعة إستثنائية حتى يتعالوا عن صغائر الأمور وبناء ما ينفع البلاد والعباد ويسدّوا الطريق أمام مَنْ يتربّص بالذكاء التونسي الذي تمكّن في أكثر من مرّة من إيجاد سُبل الإصلاح التي تُجَنِّبُ هذه الأرض العزيزة سيناريوهات كارثية ومصائر مجهولة العواقب.