آراء

كمال الزغباني : فيلسوف السعادة الذي لم تنتظره الحياة

 ترجّل الكاتب والمفكّر التّونسي كمال الزغباني وقد توقّف قلبه عن النبض مساء يوم الاثنين 14 سبتمبر2020، بل هو ترجّل قبل ذلك وقد اختار المغادرة عن هذا العالم منذ يوم 25 أفريل 2020 عندما كتب آخر تدوينة له على صفحته بالفيسبوك قال فيها: 'أمّا وقد صار فيسبوك برميل قمامة يتقيأ فيه كل من التهم الخراء التلفزي فإنني أغادره. سلامًا'. وبرحيل هذا الكائن الحبري السّابح في درب غير درب المتشابهين الباهتين، فإنّ الثقافة التونسية تفقد مفكّرًا اجترحَ أفكارًا فلسفية ووجودية من جرابه وجعل يرعاها فوق الأرصفة ويُجريها على ألسنة كلّ من عرفه درءًا لبذاءات معيش جمعيّ تنقصه الشعرية على نحوٍ فادحٍ مثلما كان دائما يصفُ ذلك، وتفقد الثقافة التونسية مبدعا روائيّا مُدجّجًا بترسانة من الاختلاف والتّمايز في التصوير والسرد والحكي فروايتاه 'في انتظار الحياة' و'مكينة السعادة' تظلاّن بصمة مختلفة في المدوّنة السردية التونسية الحديثة بما حملتاه من أفق فلسفيّ وروائي وقدرة كبيرة على السخرية من هذا الواقع المدجّن.

كمال الزغباني الذي واراه الثرى أصدقاؤه ورفاقه وطلبته وكلّ من أحبّه يوم 15 سبتمبر ظلّ رافعًا مطرقته الفكرية في جميع السّاحات النضالية المدرسية والجامعية، وبالمثل في ساحة النضال النقابي والسياسي والثقافي، ويكفي أن نذكر ما أتاه كمال الزغباني سنة 2006 عندما احتلّ شارع الحبيب بورقيبة رفقة رفاق له ليسوا إلاّ محمد الصغيّر أولاد أحمد وسليم دولة وعبد الحفيظ المختومي، واعتصموا بتمثال ابن خلدون في وقفة وبيان احتجاجي من أجل نصرة الشعب العراقي في محنته ضدّ المارد الأمريكي، ولم يختلّ توازن كمال الزغباني يوم مات رفيقه الكنعاني المغدور الشاعر عبد الحفيظ المختومي إذ كان ذاهبًا بعيدًا في رقصته «الزورباوية» عندما كانوا يحملون المختومي إلى المقبرة... هو ذا كمال الزغباني يرقص في عتمة الموت القاسي...
قاوم كمال الزغباني ما يسمّيه ثقافة «الكيتش» وكان صوتًا عاليا زمن الدكتاتورية كتابة وفعلاً فإلى جانب محاضراته في الجامعة التونسية ومقالاته النقدية وخاصة منها على أعمدة الملحق الفكري «منارات» بجريدة الشعب لسان حال الاتحاد العام التونسي للشغل، فقد كان الزغباني من مؤسسي رابطة الكتاب الأحرار سنة 2001 وبعد سقوط النظام الدكتاتوري لم يفعل سوى مزيد تدريب الناس على الحرية لتكون «الجامعة الشعبية» فضاءً مربكا في عمق الأحياء الشّعبية ضدّ كل أشكال النّمذجة التي شرع الإسلام السياسي في تسطير خطوطها وحدودها...
«زغبانيا»، قطعة من الأرض الباردة أنشأها كمال الزغباني بمقرّ إقامته وبثّ فيها من لواعجه ودفء حضنه الكثير من السعادة لتنبت أرضه أرضنا كل ما هو أخضر كالحياة وكل ما هو أحمر كالسعادة وكل ما هو أبيض كالحلم، وجعل من حديقته الخلفية مجلسًا مفتوحًا لمن يصطفيهم ويحبهم يقاسمهم أفكاره ورؤاه وأحلامه ومجازاته... لا شيء في زغبانيا غير السعادة والحياة...أدبٌ وشعرٌ وسينما ومسرح وأرضٌ آهلة بالرقص...
كانت لي منها ليلة رفقته ورفقة الموسيقار رضا الشمك ولم يكن رابعنا سوى خيوط الفجر التي لم تباغتنا ونحن ننتظرها على إيقاع رذاذ خريفيّ، كان ذلك في أواخر خريف السنة المنقضية وقد أكملت مراجعة وقراءة مخطوط روائيّ جديد لكمال الزغباني عنونها بـ«سباحة حرّة» وأودعني سرّها قبل نشرها رفقة الكاتب الأسعد بن حسين والشاعر عبد الفتاح بن حمودة، ليلة عالقة بين شُجيرات زغبانيا وقطرات ماء السّماء وأوتار رضا الشمك ودخان جُمل مثقلة بالحياة...
عرفتُ كمال قبل 17 سنة، تتالت جلساتنا الصباحية والمسائية وبعضها تواصلت إلى أعقاب الليل، ليل العاصمة، تنقلنا إلى جهات مختلفة داخل البلاد، تبادلنا أفكارا وهواجس وأمنيات... وكان الملحق الفكري "منارات" بجريدة الشعب بيدر فرح كل مواسمه حصاد مبهج... لا نفترق على عدد إلا لنلتقي على عدد لاحق... وكان الامبراطور أحمد حاذق العرف لا يجيد غير توزيع الانتصارات... كل عدد من منارات كان إبرة في عين الثقافة المترهلة، وفي قلب ثقافة النظام وسدنته... كانت انتصارات صغيرة بحجم ثورة قريبة...
ظللت طيلة كلّ تلك السنوات أنتظر من كمالوف أن يحلق ذقنه مثلا، أن يُغير ضحكته، أن يضع قناعا مثلا أو يلبس قفازات، أن يأخذ شيئا ما من أحد، أن يغيّر طريق حذائه، أن ينسى حبرَ قلمِه، محفظَته أو قارورتَه... ظلّ كمال وفيا لكمال ولم يشبه أحدًا سواه... إنه يشبه دولاب مكينة اسمها الحياة، دولاب لا يكلّ ولا يملّ من الدّوران إلى الأمام، إلى حيث اللاّمستقرّ واللاّاطمئنان...
لن نقول الوداع لكمال، قطعًا لن نتلفظ بهذه الكلمة الباردة... كلّ ما نقوله لكم مكينتكم ولنا مكينتنا..
 
ناجي الخشناوي